أوجه الاعتراض على "فدرلة" العراق مازالت قائمة ومشروعة، وما استجلاب النماذج البراقة لها من سويسرا وكندا وانجلترا وإسقاطها على العراق إلا ضرب من ميتافيزيقيا السياسة، لأن هذه الفيدراليات نشأت لتوحيد دول وشعوب منقسمة أصلا، وهي حضارات قامت على ذكرى الحروب ولا تجمعها الرغبة العفوية بل النظام والدستور الموحد. وبينت ذلك بشكل أكثر تفصيلا في مقال سابق؛ إلا أن أوجه الاعتراض تلك تنسحب أيضا على محاولة أقلمة "الدفوع" الرامية لتطبيق فيدرالية العراق وتسمية إيران كأحد "المباركين" لذلك المشروع، ثم الانجرار بإسراف نحو تمكين النفس المذهبي في الحدث وطرح موضوعات ذات شعارات طوباوية وهلامية تتعلق بسياسة "التفريس" الإيرانية هنا وهناك، وهي اتهامات خطيرة تؤسس لخطاب تمتزج فيه كل عوامل التهيئة للانتقام والثأر والتحشيد العروبي والطائفي، وإذا ما تم ذلك فإن البشرى ستكون الدماء والحسرة. الموقف الإيراني من إعطاء حكم ذاتي للأكراد معروف سلفا وهو الرفض التام، ولطالما خرجت رسائل توحي بذلك، لأنه سيشجع أكثر من مليونين من أكراد إيران لأن يلوحوا بمطالب مماثلة، وهو ما سيشكل خطرا حقيقيا على الأمن القومي الإيراني. أضف إلى ذلك، أن الإيرانيين لا يرغبون بأن يحصل أكراد العراق على منطقة غنية بالنفط "مثل كركوك"، لأن من شأن ذلك أن يفسد عليهم قواعد اللعبة القائمة والتي سعوا لتوليفها بالتحالف مع السعودية وفنزويلا، باعتبار أن الأكراد تربطهم علاقات براغماتية مع الغرب "وليس بعيدا عن "إسرائيل" أيضا". كما أن دخول تل أبيب إلى الأراضي العراقية عن طريق شركات تجارية وشركات مقاولات واتصالات مستغلة الوجود الأميركي وحميمية علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن وعلاقاتها الاستخبارية مع الأكراد يشكل هاجسا متعاظما لدى طهران. إيران غير طامحة "حتما" في المناطق الجنوبية من العراق إذا كان ذلك الطموح سيأتيها عبر الفيدرالية، وخصوصا أنها تمتلك من الحلفاء ما يغنيها عن ذلك، فالائتلاف الشيعي الموحد اكتسح تسع محافظات من بين 11 محافظة، كما أن ستا من تلك المحافظات يسيطر عليها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بالكامل، وهو الحليف القوي والمركزي لإيران، والدستور الجديد سيقوي المجاميع المحلية في الجنوب القريبة من طهران بحسب رأي الخبير في الشئون العراقية بجامعة ميتشجان جوان كول، وبالتالي فإن دعوى "مباركة" إيران لمشروع الفيدرالية لمسعى السيطرة على الجنوب تفتقر إلى الواقعية. البائن من كل تلك التهم أنها تحتكم فقط إلى النفس القومي الذي بدأ يتحرك في اتجاهه الخطأ بالتحالف مع القوى التكفيرية والظلامية، مستعيرا الألفاظ والقوالب الدينية الجاهزة ذاتها، التي يمتلكها المخزون السلفي المريض. وإذا كان الحقد للإيرانيين قد وصل إلى هذا المقام المتقدم من خلال تأسيسات سابقة في الذاكرة العربية البائسة فإن الأمر يمكن أن يتماثل هو الآخر لدى الإيرانيين، فإيران ومنذ انتصار الثورة الإسلامية فيها قبل 26 عاما، تلقت الكثير من الرسائل السلبية من حكومات عربية مختلفة، كانت باكورتها حرب الثماني سنوات التي تجرع الإيرانيون من خلالها الكثير من المآسي، إلا أنهم عضوا على جروحهم متناسين كل ذلك، فساهموا لإخراج اتفاق الطائف بمواءمات سياسية حذرة أنهت الحرب الأهلية في لبنان، وأدانوا احتلال صدام للكويت وفككوا شبكة حركات التحرر وساهموا في إنهاء الكثير من إشكالات الحركات الإسلامية الشيعية في المنطقة، ودفعوها إلى الاندماج في الحياة السياسية والتصالح مع الأنظمة، وجاءوا برئيس معتدل وبوزير دفاع من أصول عربية ومدوا أيديهم للسلام، إلا أن الكثير من الدول العربية لم تحسن إدارة الواقع الجديد كما يجب، بل آثرت التخندق خلف تحصينات كارتونية واستحضار كل المنغصات التي لا تفضي إلا إلى القطيعة كتسميات الخلجان والشوارع والأزقة، بل وفضلت أن تصافح الإسرائيلي وتستنكف ذلك مع الإيراني، وفي ذلك مفارقة عجيبة تحتاج إلى مراجعة وتبصر. وفي أزمة احتلال العراق أغلقت إيران حدودها البرية والجوية أمام المحتل، إلا أنها لم تسلم من الاتهامات العروبية، فاتهمت بأنها الحليف السري للأميركان، ثم اتهمها العراقيون المتحالفون مع واشنطن بأنها لا تضبط حدودها مع العراق، وكأنها الدولة الوحيدة التي تتجاور معه، على رغم أن تركيا تحده بـ 331 كم، والكويت بـ 242 كم، والمملكة العربية السعودية بـ 814 كم، والأردن بـ 181 كم، وسورية بـ 605 كم، وهي كلها حدود شاسعة يمكن أن يأتي منها ما يأتي من غيرها. لقد وقف الإيرانيون مع العراقيين في أزمتهم أفضل مما وقفت معهم دول عربية، وكانت إيران أول دولة تعترف بمجلس الحكم، وأوفدت وزير خارجيتها للعراق مرتين، وشحنت آلاف الأطنان من البضائع والسلع والمؤن بمختلف أنواعها عبر حدودها الشرقية الشمالية للعراق، وزودت المناطق الجنوبية بالطاقة الكهربائية، وبدأت في تسيير خط بحري بين مدينتي خرمشهر والبصرة بهدف تنشيط التجارة البينية عبر نهر أروندرود، وقدمت خدمة طباعة الكتب الدراسية العراقية وتنظيم المهرجانات الثقافية والسينمائية، كما قدمت خلال الاجتماع الدولي الثالث لخبراء صندوق الدعم المالي لإعادة بناء العراق "آي. آر. اف. اف. آي" في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في طوكيو مبلغ عشرة ملايين دولار كوجبة أولى على رغم أن العراق مدين لها بأكثر من 100 مليار دولار بسبب حرب الثماني سنوات. إن أخوف ما نخاف منه أن ينزلق ذلك العداء الرهيب إلى عداء مذهبي شيعي سني، وبالتالي ينسحب ذلك العداء إلى الأصول القومية لمتبعي الأديان والمذاهب، وبما أن الأكراد والشيعة التركمان تاريخيا ينتمون إلى الشعوب الفارسية، فإن إيران ستكون في خانة الأعداء والمتآمرين قطعا بحسب التوصيف القومي والطائفي، الأمر الذي يعني أن القوميين العرب لم يعوا بعد أن الإسلام دين أممي فوق القومية، وانه ضد العنصرية والاستعلاء القومي، ولا يمكن إحالته إلى توريطات الأطر الضيقة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1117 - الإثنين 26 سبتمبر 2005م الموافق 22 شعبان 1426هـ