قبل أسبوعين، اتصل أحد المواطنين، ليعرض موضوعا خطيرا جدا بحسب تعبيره، فاتفقت معه على أن يوافينا في "الوسط". حين استقبلته كان معه كارتون صغير فيه "غوجة"، في أسفله عبارة صغيرة كريهة تقول "Made In Israel". الشاب يعمل في شركة لاستيراد الفواكه، وفوجئوا بالكارتون "المدسوس" بين صناديق الفاكهة القادمة من الأردن، فجاء به ركضا ليدفع البلاء عن بلادنا، ولئلا يأكل أحد البحرينيين فاكهة زرعها أعداؤنا الصهاينة. قبل ذلك بأشهر، جاء شاب آخر، بصندوق فواكه أيضا من الجهة نفسها، يحمل فاكهة "خرمالو"، ونشرت "الوسط" صورة الفاكهة المقززة على صفحتها الأخيرة محذرة من التسلل الصهيوني للبلاد... وقبلها خبر تورط شركة تبيع أجهزة حاسوب تدخل فيها مكونات "إسرائيلية". وما خفي كان أعظم. على أن الخبر الصاعق الذي صدمنا جميعا، هو رفع مقاطعة البضائع الاسرائيلية. وهو خبر لا يمكن أن يستوعبه أو يتقبله البحريني على الإطلاق. فنحن العاجزين عن نصرة الفلسطينيين نرى المقاطعة تعبيرا عن تضامننا معهم، وذلك أضعف الايمان. قبل عام، زار البحرين صحافي بريطاني، وتحدث لنا في "الوسط" عن الوفود الإسرائيلية التي قابلها بالصدفة في فنادق هذه العاصمة الخليجية أو تلك، وكنا نضع أيدينا على قلوبنا ونقول: عسى ألا تتورط بلادنا في مثل هذه الخطيئة أبدا. فهل علينا أن نعيد حساباتنا ونهيئ أنفسنا لاستقبال التجار الصهاينة في المنامة بعد اليوم؟ شعوب الأرض تصبح على أخبار سعيدة، ونصبح نحن البحرينيين على خبر محزن تعيس، عن إسقاط المقاطعة لـ "إسرائيل". ووسط كل هذا الحزن الذي نزل على قلوبنا لهذه الخطوة الفاجعة، مازال لنا أمل بأن تراجع الحكومات أنفسها، وأن تحترم إرادة شعوبها، فهناك خطوط حمراء لدى الرأي العام حتى في السياسة الخارجية، وبالذات في جرحنا الأكبر: فلسطين. هذه الخطوة غير الموفقة، لن تجد بحرينيا واحدا يؤيدها أو يدعمها أو يبررها. وعلى رغم كل خلافاتنا نحن البحرينيين، إلا اننا رأي واحد في قضية فلسطين، من أئمة الجمعة، إلى حملة القلم، إلى رجل الشارع، إلى المرأة والطفل والشيخ الهرم. ولا أنسى وجه المرحوم والدي في آخر أيامه، عجوزا عاجزا على سرير المرض، كلما شاهد مناظر البطش الإسرائيلي بالفلسطينيين يقول: "مساكين... "إسرائيل" لاعبة بهم لعب". نعم، لعبت بهم، وهذه جائزتها! هذه هي مكافأتنا للعدو الصهيوني على مجازره التي استمرت سبعة وخمسين عاما. وهذه مكافأتنا لجزار صبرا وشاتيلا، الذي وعد الإسرائيليين بقمع الانتفاضة خلال مئة يوم، فلما عجز عن إنهائها في خمس سنوات، حتى اندحر جيشه من قطاع غزة، إذا بنا نكافئه على الاندحار! نحن البحرينيين مهما اختلفنا إلا اننا كلمة واحدة في قضية فلسطين، لن يشذ منا إلا من هلك. هذا هو تاريخنا المشرف، ولن يتغير التاريخ بإنهاء مقاطعة رسمية أو فتح مكتب تجاري أو حتى إعلان إقامة علاقات رسمية مع الكيان الغاصب لا سمح الله، عسى ألا يأتي على البحرين مثل ذلك اليوم الأسود المجلل بالعار. هذه هي مشاعرنا، وهذه هي مواقفنا، إجماع مطلق من المحرق إلى الدراز، ومن البديع إلى سترة والدور في أقصى الجنوب. بعض شباب هذا الوطن قاتلوا مع الفلسطينيين في عمان ،1970 وبعضهم صمد معهم في بيروت المحاصرة ،1982 ونساؤنا تبرعن بحليهن وقلائدهن للإنتفاضة ،2000 ورجالنا تبرعوا بدمائهم 2004 حتى اعتبرت "إسرائيل" صناديقنا الخيرية منظمات إرهابية لأنها أرسلت أكياس الدم البحريني إلى رام الله ونابلس وجنين! أبعد هذا علينا أن نستقبل البضائع الإسرائيلية في منازلنا؟ على رغم كل ما تملكه الحكومة من كتاب موالاة، وعلى رغم كل ما تملكه من إعلام، إلا انها لن تجد كاتبا واحدا يدافع عن خطوتها تلك،لأنها كانت تشعر بنوع من الخطيئة والحرج مما أقدمت عليه. لذلك تسرب الخبر من وسائل الإعلام الخارجية حتى أصبحنا في الصورة، ولم يتجرأ أحد من كتابها على الدفاع عن هذه القضية، لأننا كلنا ضد "إسرائيل". ربما كان للحكومة بعض المبررات لما تتعرض له الحكومات العربية من ضغوط أميركية لا تقاوم، وربما لأنها تضع مصالحها "الوطنية" فوق اعتبارات الدم الفلسطيني ومأساة الفلسطينيين، إلا أن الموقف الشعبي سيبقى مقاوما ورافضا لمثل هذه الخطوات التي ستقود حتما إلى التطبيع. وللفلسطينيين نقول: هذه مواقفنا نحن شعب البحرين، لو أنهى كل العالم مقاطعته لـ "إسرائيل"، سنبقى آخر شعب على وجه الأرض يمكن أن يرفع يده معترفا بشيء اسمه "إسرائيل". إنها قضية مبدأ وشرف، وقضية حق وحرية وعدالة، وظلم لم يشهد التاريخ له مثيلا على مر القرون. صبرا آل فلسطين، وسنبقى نقاطع دولة "إسرائيل" حتى نهايتها... فهذه كلمة الشعوب للشعوب
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1116 - الأحد 25 سبتمبر 2005م الموافق 21 شعبان 1426هـ