تأمل الحكومة من المعارضة بعد ميثاق العمل الوطني والتجربة البرلمانية الوليدة أن تكون معارضة "ناعمة" ومستكينة، فالسلوك السياسي الحكومي بمعية خطابات مناصريها في أجهزة الإعلام البحرينية يتجه إلى الرفض "القاطع" لأي سلوك سياسي معارض تقوم به الجمعيات السياسية البحرينية وخصوصا المقاطعة منها. و تأمل المعارضة في السياق ذاته أن تكون الحكومة "منبرا للصدق والحرية والأخلاق"، تأمل منها أن تفي بكل طوباوية سياسية تفترضها أدبيات النموذج المدني للحكم، وفي كلا النظرتين "خيبة"، سواء على صعيد المتمني أو الأمنية ذاتها. ثمة صورة سياسية "جامدة" تسيطر على التجربة السياسية في البحرين، سأحاول في هذه العجالة تبيان وسبر شيء منها بما يتوافر من أدوات.
الحكومة "رمزية الصدق والخير"
إن شعارات من مثل "كونوا أحرارا كما ولدتكم أمهاتكم"، "إن التسجيل في قانون الجمعيات إذلال وعبودية وهدر للتضحيات والدماء"... تتضمن هذه التوليفة الخطابية الكثير من الأمور المثيرة والمقلقة، وهي تحمل فيما تحمل الكثير من المضامين السياسية المهمة، استطيع أن استشف من مجمل الخطاب السياسي للمعارضة أنها مازالت تتحرك في نطاق الرمز الثلاثي الكلاسيكي "الأخلاق، الحرية، التضحيات". كان هذا الخطاب ومازال خطابا "سياسيا ثوريا" يتناسب مع مراحل الاستقلال والخلاص والتحرر السياسي، ولا أدري كيف لرموز المعارضة أن تراهن عليه باعتباره خطاب مرحلة سياسية حديثة ومتغايرة، تتصف بأنها قطعت تلك المرحلة وتمايزت عنها، لابد أن نصدق أننا نعيش مرحلة سياسية جديدة قبل أن نحاول العمل فيها، وهذا ما تحتاجه بعض الرموز المعارضة، التي مازالت فاقدة للوعي. هكذا تكون الرسالة الرئيسة للإنسان البحريني من منظور المعارضة "إنك لن تكون حرا حتى تموت جوعا!"، فالأجندة السياسية للجمعيات المعارضة لا تحمل في أدبياتها ما يناسب المرحلة سوى أن تتحول الحكومة إلى رمز الصدق والدعوة إلى الخير، وهي لن تكون كذلك إلا إذا كانت في خط متناسق مع رغبات المعارضة وطموحاتها. وفي هذه الأثناء، أي مرحلة الانتقال من الحكومة "المعادية والمنافية للصدق والخير" إلى الحكومة "الصادقة والداعية إلى الخير والحرية"، على المواطن البحريني أن يقنع بما هو عليه، فالقناعة هي حريته المفقودة وطموحه المنشود. وهذا على سبيل المثال ما جعل من الزيادة الخجولة في رواتب الموظفين الحكوميين هذا العام أكبر معاني الحرية والديمقراطية، وكانت المعارضة عبر سلبيتها سببا في أن تلعب هذه الزيادة التافهة دور الدليل على وجود ديمقراطية. ولنا كإعلاميين بعض الأسئلة المهمة، أولها: هل من الضروري أن تكون الدولة أمينة على مفاهيم عائمة كالصدق والخير؟ وهل يجوز لنا أن نعتقد - جزافا - أن حماية هذه الأخلاقيات هي مهمتها الرئيسة؟ وهل هناك في تاريخ الإنسانية "حكومة خير"؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هل تلتزم المعارضة بهذه القيم التي تدعو الحكومة إلى الالتزام بها؟ وما توصيف الطموحات السياسية للرموز الاجتماعية في سياق الدعوة إلى الخير والصدق والحرية؟ وهل نحن جادون في أن نصدق طرفا على الآخر؟ أعتقد أن هذا المحور بالذات ثقافته الكذب لا الصدق، والتملص من الخير لا الالتزام به، ومعرفة إشكالية الأسئلة مسئولية الناس لا الحكومة ولا المعارضة. في "العقد الاجتماعي" لروسو يورد لنا هذه العبارات "إن شعب انجلترا يعتقد أنه حر، ولكنه يخطئ خطأ شنيعا حين يعتقد أنه حر خلال انتخاب أعضاء البرلمان فقط، إنه بمجرد أن ينتخبهم، تباغتهم العبودية، ويصبحون لا شيء". هذا ما يتناقض مع أية حماسة سياسية تشتعل في عروق أي سياسي أو قارئ أو متابع للشأن البحريني، إلا أن الفهم لهذا "التناقض اللاأخلاقي" هو ما تحتاج السلط السياسية البحرينية إليه.
المعارضة "الهادئة"
طبيا، نصنف النزيف الداخلي بأنه أشد خطورة من النزيف الخارجي. لذلك على التجربة الإصلاحية أن تقبل نزيفها الداخلي وأن تحاول معالجته لا الشكوى منه أو التململ من أعراضه. الخطاب السياسي للحكومة ولموظفي علاقاتها العامة من الصحافيين وكتاب الأعمدة "الهرمة" يتجه إلى تقزيم "مفهوم المعارضة"، بل إلى المطالبة الصريحة والمباشرة بإنهاء ثقافة المعارضة في الحياة السياسية البحرينية. لدينا قوالب خطابية جاهزة مثل "إن التجمعات والاعتصامات تضر بالاقتصاد الوطني"، "المقاطعة إضعاف للتجربة البرلمانية"، "لا توجد بطالة، فقط هي لعبة سياسية". إن هذه القوالب مسكونة باللافهم الاجتماعي والسياسي بدرجة ممتازة. المجتمع لا يعرف السكون، والمعارضة في أي مجتمع من المجتمعات حال لا تنتهي ولا تستقر ولا تهدأ. والحكومة ببساطة تطلب المستحيل حين تعتقد أنها بعد أن أوقفت نزيفها الخارجي لحساب نزيف الداخل، لابد أن تسير لها الأمور في جميع أعضاء جسدها السياسي بهدوء وصحة وعافية. لا يمكن للدولة أن تتحصل بين عشية وضحاها على "معارضة هادئة" فضلا عن معارضة تصفق لها أو تشيد بمنجزاتها الوطنية! والمستفاد من خطاب الجسم السياسي الحكومي أن الحكومة تؤسس إلى اعتبار المعارضة - ممثلة بالجمعيات المقاطعة تحديدا - أجسادا غريبة "ممرضة"، لا تخدم التجربة، ولا تتماشى مع خيارات المرحلة، وفي هذه الصورة السياسية مغالطة. إن المجتمع - أيا كان - يحتاج إلى خطاب المعارضة لنماء تجربته مهما كانت آفاقها ونجاحاتها، فالمقاطعة للانتخابات البرلمانية السابقة كانت لها تأثيراتها الإيجابية على التجربة السياسية البحرينية كما كانت لها سلبياتها، لنا أن نتشدد تجاه ترويج وبيان السلبيات للمقاطعة، لكننا لا نستطيع أن ننكر الإيجابيات كمراقبين. وكما أن للسلطة "شخوصها" التي تتنافس في حقل الحكومة على المناصب ولعب الأدوار، فإن المعارضة لها شخوصها المتناحرة، ثمة جوانب في هذا السياق مهملة وغير ملتفت لها، ولعل أبرز الحوادث الدالة على هذا السياق استفحال "ظاهرة العاطلين عن العمل"، وظاهرة "الفتاوى السياسية" و"الفتاوى السياسية المضادة"، وكما أن لهذه الظواهر مسبباتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، فإن لها قراءاتها السياسية التي تهملها الدولة، تارة متعمدة، ولمؤثرات داخلية "معقدة" داخل الهرم السياسي الحكومي تارة أخرى. وعلى رغم أن المعارضة أخفقت في إدارة ملفاتها خلال السنوات الخمس الماضية، فإنها لعبت دورا حيويا في جوانب أخرى غير ملتفت لها، وهذا ما أطلق عليه سياسيا بالمراقبة من الأعلى لأفعال سياسية مقرونة تارة بالتضحية، أو بالإهدار المتعمد للدعوة إلى الخير والصدق والحرية تارة أخرى، وللجميع في ذلك "حكمة"
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1116 - الأحد 25 سبتمبر 2005م الموافق 21 شعبان 1426هـ