التظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن الغرب، وتحديدا في واشنطن ولندن، ضد الحرب على العراق تشير مجددا إلى نمو حالات الاعتراض على سياسات دولية تعتمدها إدارات بالنيابة عن الناس وضدهم أحيانا. فالحملة المناهضة للحرب هي إشارة سياسية على وجود خلل في التوافق "الديمقراطي" يتمثل في تعارض التوجهات بين تيار يميل إلى عدم التدخل وبين تيار يتجه نحو توسيع السياسة التدخلية في شئون العالم. الانقسام في التوجهات العامة بين طرف يعطي أولوية للمشكلات الداخلية وطرف يعطي الأولوية للمشكلات الخارجية ليس جديدا على "الديمقراطيات" الغربية. فمثل هذا النوع من التفاوت بين توجهين تعرفه "الديمقراطيات" منذ تأسيسها رسميا ويتوقع أن يبقى ويتسع كلما اتجهت العلاقات الدولية نحو مزيد من "العولمة". الانقسام بين الداخل والخارج هو روح "الديمقراطية" الغربية لأنه يتشكل أساسا على أنظمة ترى أن فكرة الاستقطاب بين "نعم" و"لا" هي مصدر التقدم وهي تعطي الدولة مساحة من الحيوية وتؤهلها للتكيف مع المستجدات ضمن موازين الربح والخسارة. "الديمقراطية" الغربية تأسست أصلا على الانقسام الأهلي ومنه انطلقت لصوغ علاقات داخلية تتصف بالمرونة والانفتاح على مختلف وجهات النظر والأطراف والتيارات. مقابل هذه المرونة الداخلية تميزت تلك "الديمقراطية" في سياستها الخارجية بالهيمنة والتسلط والاستبداد والتوسع في الأسواق والاستيلاء على الثروات ونقلها بوسائل مختلفة إلى بلدانها لتأمين الرفاهية لشعوبها. بين الداخل والخارج تكونت "الديمقراطيات" الغربية تاريخيا وأسهم الجدل بين الدولة والمعارضة في تشكيل رؤية منسجمة تغلب المصالح دائما على المبادئ. وبسبب هذا التفاهم على الدفاع عن المصالح العليا للأمة لعبت "الديمقراطية" دورا في صون السياسة الخارجية وتحصينها من الاختراق. وهذا ما أدى دائما إلى غلبة المصالح على المبادئ وعدم اختلاف السياسة الخارجية جذريا بين هذا الفريق حين يكون في المعارضة وذاك الفريق حين يكون في الحكم. فالفرقاء والأطراف والتيارات متفقة كلها على برنامج واحد وهو حماية مصالح الدولة ومنع الآخر من العبث بها. هذه المسألة يجب ملاحظتها حين نشاهد على شاشات التلفزة والفضائيات مئات آلاف المتظاهرين يخرجون إلى الشوارع في مختلف المدن والعواصم الغربية يطالبون بسحب القوات وعدم التدخل. فهذه المشاهد لا تعني الكثير للأجهزة الأمنية والتكتلات واللوبيات ومافيات النفط والصناعات الحربية. فالقرارات في النهاية تؤخذ في الإدارة وما يتبعها من مؤسسات ولا تتأثر بالشارع إلا في حدود نسبية وحين ترتفع الخسائر إلى مستوى لا تستطيع الدولة تبريرها أو تغطيتها إعلاميا وسياسيا. فالمسألة في النهاية محكومة بالنتائج الميدانية وما تسفر عنه من فوائد أو كوارث. مشهد التظاهرات "الموسمية تحديدا" هو مجرد صورة عابرة في سياق طويل من المصادمات وحتى يتحول المشهد إلى صور تعلق في ذهن المشاهد لابد من تكرارها يوميا لتتحول إلى قوة ضغط سياسية تدفع الإدارة إلى التفكير بقراءة ثانية للنهج الذي اعتمدته. وهذا لا يتحقق إذا لم ترتفع الخسائر على حسابات الربح. "الديمقراطية" في الغرب مسألة تاريخية مركبة وهي في طبيعتها معقدة في علاقاتها الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية وتعتمد آليات للفرز والتنظيم وضبط المبادئ تحت سقف المصالح. وبسبب هذا الإطار المرن نجت دول الغرب من الحروب الأهلية وتوصلت إلى ابتكار نماذج تلبي حاجات الجميع من دون الإخلال بالمبدأ الأول: مصلحة الدولة فوق كل المصالح. الحرب على أفغانستان ثم استئنافها على العراق... والتهديد بالمزيد منها ضد دول الجوار وابتزاز سورية وإيران باحتمال نقلها إليها هي سياسات تقررها الدولة في اعتبار أن مصلحتها "مصلحة الشعب" تستوجب ذلك. وحين تقرر وقف العدوان والانسحاب والتراجع فإن القرار في النهاية يخضع للمصلحة لا الشارع. فالشارع يضغط فقط، أما السياسة فلها قنوات أخرى تتصل بشبكة من المؤسسات واللوبيات والمافيات. المظاهرات المناهضة للحرب هي جزء من المشهد ولذلك فإن المراهنة عليها لانزال هزيمة بالولايات المتحدة لا تدل على حكمة سياسية وتشير إلى قلة معرفة بالقوانين الفعلية التي تتحكم بقرارات "الديمقراطية" في الغر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1116 - الأحد 25 سبتمبر 2005م الموافق 21 شعبان 1426هـ