بالأمس كانت هناك حفلة مراسيم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في السودان، وهو مؤشر على ان السودانيين استطاعوا ان يبتعدوا شيئا عن محنتهم، وأن يبدأوا بتأسيس مستقبل لأبنائهم من دون أن يتراجعوا ويضعوا أنفسهم في موقع "تحت مجهر الجامعة العربية"، لتقول لهم: هذا جيد وهذا سيء، وهذا يخل بعروبة السودان وذاك لا يخل، وهذا سيكون مفتاحا لجمع العرب في دولة واحدة ورسالتها خالدة، وذاك يحدث الانقسام في الجسد العربي، وبالتالي فهو مؤامرة كبرى لشرذمة العرب باعتقاد العرب انهم موحدون ومتوحدون! المهم ان السودانيين استطاعوا أن يؤسسوا مستقبلا لهم من دون حساب هل ان العرب سينزعجون أم لا؟ طبعا، لا نعرف هل هذا الموقف الجريء هو موقف الحكومة السودانية ام موقف الجنوبيين الأفارقة؟ ومر الوضع بسلام من دون اصطدام بأي عائق ما عدا الداخلي، المرتبط بمصالح وتطلعات السودانيين أنفسهم. والعرب لم يظهروا انزعاجهم من العملية السياسية في السودان لكنهم انزعجوا من ناحية الشكل والمضمون من العملية السياسية الجارية في العراق. فالعرب انتهجوا نهج التشكيك في وطنية العراقيين والتشكيك في انتماءاتهم الوطنية. وهذا هو اللغز! ونسأل: لماذا؟ وما هو أساس المشكلة؟ اذا كان للعامل الدولي دور في ذلك فإن هذا العامل الدولي موجود في كل مكان، وهو موجود في السودان ايضا. والمتابع يقع في حيرة من أمر العرب ومن الجامعة العربية. واستطرادا، هناك تاريخ كتب من الأساس بشكل خاطئ، وهذا أمر معروف تماما، لأن القوميين العرب فكروا في مراحل تكوينهم السياسي بطريقة "فوتو كوبي" نقلا عن الحركات القوية العنصرية في العالم، وأرادوا أن يعرفوا كل البشر الذين يعيشون في هذه المنطقة بأنهم عرب، وأرادوا أن يسجلوا إنجازات شخصيات مثل طارق بن زياد وصلاح الدين الايوبي في سجل مفاخر العرب، واعتبروا كل هذا من انجازات "الامة العربية الواحدة"، من دون أن يرجعوا ولو لبرهة الى التاريخ والوقائع الحقيقية. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة: هل يتحمل الأكراد مسئولية خطأ كتابة التاريخ العربي، فهو من الأساس كتب بشكل خاطئ، فما ذنب الاكراد وغيرهم من القوميات ليقبلوا ما يقال عنهم، وهم صامتون، لكي يكتب التاريخ مرة أخرى بشكل خاطئ، وليقول ان العراق "كل العراق" جزء من الامة العربية. فالأكراد كقومية من حقهم أن يثبتوا هويتهم القومية والاجتماعية. ثم ان الاكراد تنازلوا حين قالوا إن العرب جزء من الامة العربية، لكن لم يذكروا أهم جزء من الأمة الكردية، وذلك خوفا من الهيمنة المتبقية من قبل القوميات الحاكمة في الشرق "تركيا، العرب، الفرس". ثم اسأل كيف سيتعامل الشيعة العرب مع الوضع حينما يقوم الكثير من الكتاب العرب ومسئوليهم، باتهامهم بأنهم ليسوا عربا؟ ماذا سيعمل الشيعة العراقيون حين يحاول "العروبيون" انتزاع عروبتهم؟ وهل يرضى هؤلاء بغير عودة صدام حسين ليهيمن على الشيعة والكرد وغيرهم من القوميات، وليقمع الكل تحت حجة الخطر المحدق بالأمن القومي العربي؟ وهل من حق هؤلاء التشبث بالقومية وبوجهها العنصري القبيح، ولا يحق لغيرهم ان يتمسك بقوميته وخصوصيته؟ وهل لا يصبح الكردي والعربي الشيعي جيدا إلا عندما يتبرأ من هويته ويترك مصيره بأيدي حفنة من الارهابيين؟ من حق العرب ان يتباكوا على هوية العراق، لكن من حق العراق أيضا أن يطلب من العرب أداء واجباتهم والتزامهم الأدبي تجاهه. العرب يريدون ان يكون العراق جزءا من الامة العربية من دون أن يساعدوا العراقيين في الخروج من محنتهم. والسؤال: هل يعقل ان يطلب العرب من العراق ان يكون جزءا من العراق في حين يتهمون جزءا كبيرا من مواطنيه بأنهم عملاء لإيران وأن غالبية المسئولين العراقيين مرتزقة؟ ينسى العرب انهم قصروا بحق العراقيين، ونسوا أنهم مدينون للعراقيين. ثم ان الانتماء مسئولية، فعندما يطلب العرب من العراق أن يكون جزءا من الامة العربية، فهذا يعني أنهم سيكونون الى جانب العراقيين، أما الحقيقة فهي بالعكس، فالعرب يريدون ان يكون العراق جزءا منهم، ولكنهم لا يرسلون سفيرا عربيا إلى العراق، ولم يرسلوا معونة مادية أو معنوية إلى العراقيين، ولا إعلاما ينقل الصورة على وجهها الصحيح. العرب يريدون أن يكون العراق جزءا منهم، وهم حتى الآن لا يعترفون بالعملية السياسية الجارية في العراق. وللأسف، لم يلحظ العراقيون أي دعم من العرب غير تشجيع التمرد وإرسال الارهابيين القتلة وإيواء عناصر الحكم المخلوع، وغير ذلك. ان العرب اليوم الذين يصرون ان يكون العراق جزءا منهم، لم يساهموا في إعمار العراق، والأمين العام للجماعة العربية عمرو موسى الذي يبكى على عروبة العراق، كان بالأمس يبكي على أمجاد صدام حسين. العرب أساءوا للعراقيين، وكانت مواقفهم غير مشرفة، إلى درجة حاول بعضهم تكذيب مسألة القبور الجماعية، وهي القبور التي كانت تفتح على مرأى الاعلام العالمي. بل أراد بعضهم اتهام إيران بأنها هي التي قامت بضرب "حلبجة" بالأسلحة الكيماوية! لكن على رغم كل ذلك، فإنهم يريدون ان يكون العراق جزءا منهم، وهم الذين يتركون العراق الكبير أمام حفنة من الارهابيين الذين يتفاخرون بقتل الأطفال والنساء والمواطنين العراقيين الأبرياء، ويزغردون على "استشهاد البطل" الذي لا يقتل أميركيا أو بريطانيا، وإنما كل فخره في اختطاف وقتل المواطن العراقي، العربي والتركي والكردي.
إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "العدد 1115 - السبت 24 سبتمبر 2005م الموافق 20 شعبان 1426هـ