ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
في فلسطين المحتلة يبدأ العدو جولة جديدة من جولات تهجير الفلسطينيين وتشتيتهم داخل فلسطين وخارجها. فمع حملات الهدم والاقتلاع والإبعاد المتواصلة التي تطاول الشعب الفلسطيني داخل القدس المحتلة، تتوالى عمليات الزحف الاستيطاني التي بدأت تأخذ زخما إضافيّا مع الحكومة اليمينية الجديدة، ويواصل الجدار العازل قضمه للأراضي الفلسطينية وعزلها، في ظل عمليات القتل المتعمَّد التي ترتكبها قوات الاحتلال في صفوف المتظاهرين رفضا لهذا الجدار العنصري.
إن الهجمة الصهيونية الجديدة على الشعب الفلسطيني تحاول أن تلبس لبوس المرحلة، مدّعية أنها تتوافق مع الحركة الأميركية التي انطلقت مع إدارة أوباما، والتي حاولت أن توحي بأنها ستسير في خط التسوية لإقامة دولتين في فلسطين المحتلة، تماما كما هي المسألة عندما أطلق بوش شعار الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وهو الشعار الذي امتد إلى «أنابوليس» ثم أكلته التطورات، وهضمته الأحداث.
إن على العرب الذين يُقبل بعضهم على زيارة كيان العدو ليفتح معه صفحة جديدة، ويرسل بعضهم الآخر الرسائل من بعيد التي تشير إلى أنهم جاهزون لخطب ود الحكومة اليمينية المتطرفة، ويحلّ بعضهم الثالث ضيفا على الرئيس الأميركي الذي طالب بمبادرات حسن نيّة لتبقى المبادرة العربية كورقة في مهب النقاش، ولينطلق العرب بعدها في مبادرات جديدة تأخذ في الاعتبار التوازنات الجديدة، وتراعي الوضع «الإسرائيلي» في الداخل الذي يوحي بسحب مسألة يهوديةِ الدولة كشرط للتفاوض، ولكنه يجزم بأن المفاوضات ستبقى في مكانها إن لم يتقدّم العرب نحو التسليم بهذا المبدأ... إن على العرب أن يعرفوا أن ما تطلبه منهم الإدارة الأميركية لن يخرج عما تتطلّبه المصلحة «الإسرائيلية»، وأنها ستطلب منهم في المستقبل أن يكيّفوا أوضاعهم مع الحقائق الجديدة داخل كيان العدو، والتي ستستمر في الظهور ويتجدد معها الطلب الأميركي.
إنه لمن المريب حقّا أن تنطلق الصواريخ التي تحمل أقمارا اصطناعية تجسسية - التي تصنعها «إسرائيل» - من قلب القارة الهندية، وأن تنطلق الدول في علاقات تسلحية معها ليبرز العدو كحاجة حتى للصين وروسيا، وليمدّ ذراعه العلمي والأمني إلى الدول الكبرى، بينما تنطلق بعض الدول العربية والإسلامية بما يشبه العقدة في الهجوم الإعلامي والسياسي على إيران، وفي وصفها بالخطر الداهم على العرب، في الوقت الذي لم يجد العرب من يدافع عن قضيتهم ويحمل همومهم وهواجسهم في مواجهة «إسرائيل» إلا إيران، وقد تجلّى ذلك في مؤتمر مكافحة العنصرية في جنيف.
وقد لاحظنا في هذا المؤتمر كيف غابت عنه الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية الرئيسة لحساب «إسرائيل»، وخشية من أن تدينها قراراته بفعل سياستها العنصرية الحاقدة ضد العرب والفلسطينيين، وعدوانها المتنوّع في قتل الفلسطينيين واضطهادهم ومصادرة أراضيهم، والسيطرة على مياههم... وكيف انسحبت الدول الأوروبية الأخرى في أثناء مداخلة الرئيس نجاد، من دون أن يدفع ذلك الدول العربية إلى القيام بمبادرة ثناء أو تواصل مع هذه الخطوة الإسلامية الإيرانية المميّزة، والتي تؤكد أن الموقف الإسلامي الذي أراده الإمام الخميني من مسألة فلسطين لا يزال يمثل التزاما ثابتا في سياسة إيران تجاه العالم كله.
إن على العالم كله أن يدرك حجم الجريمة العنصرية التي تمارسها «إسرائيل»، وعلى العرب والمسلمين أن يفضحوا جرائمها ومجازرها في كل المنتديات الدولية، لا أن يديروا ظهرهم لقضايا أمتهم، أو أن يتركّز همهم على ملاحقة أولئك الذين نذروا أنفسهم لمساعدة الشعب الفلسطيني المظلوم والمحاصَر.
وعلى الدول العربية - إذا كانت صادقة مع نفسها ومع التزاماتها الإسلامية والقومية - أن تُظهر للعالم أن أكبرعدو للسامية هي «إسرائيل» التي تضطهد العرب الذين هم ساميّون، والتي تحظى بحماية العالم كله، حتى عندما ترفض التحقيق في أحداث مجزرة غزة، لتنكر على ما يسمّى «المجتمع الدولي» حتى محاولاته الشكلية في الكشف عن المجرم، مستفيدة من سبات الأمم المتحدة التي شاهد أمينها العام بأم عينه مجازر «إسرائيل» في قصفها لمقرات «الأونروا» في غزة، ثم حاول أن ينكر على الرئيس الإيراني إشارته إلى عنصرية هذا النظام، ليكذّب بلسانه ما شاهدته عيناه.
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ هذا الكم الكبير من الشبكات «الإسرائيلية» التي تمّ اكتشافها، والتي تتحرك بحرية على مختلف الأراضي اللبنانية، وتصل أذرعها الأمنية إلى كل مكان، بما في ذلك أرشيف الدولة اللبنانية، ما يدل على أن الموساد «الإسرائيلي» يملك هامشا واسعا للتحكّم في الحركة الأمنية، والتأثير على الحركة السياسية في لبنان، الأمر الذي يجعل الساحة اللبنانية ساحة مفتوحة على تطورات المنطقة والعالم، ومصدرَ خطر على حياة المواطنين والمقيمين فيها، وخصوصا للذين يمثلون التحدي للعدو «الإسرائيلي» والمستعدون لمقاومته ومواجهة ما يخطط له من العدوان على لبنان، كما برز في تهديدات ضباط جيشه ومسئوليه الذين صرّح بعضهم بأن الجيش الصهيوني سوف يشنّ الحرب القادمة على لبنان لتدمير بنيته التحتية، لا على المقاومة وحدها، وذلك عندما تتوافر له الظروف للعدوان بما قد يصنعه من المبررات الأمنية والسياسية.
وهذا ما يفرض على اللبنانيين أن يكون كل مواطن خفيرا ورقيبا على حركة الجواسيس الذين خدعهم العدو وأغراهم بالمال، ولا سيما في المناطق التي بقيت لفترة طويلة تحت ضغط الاحتلال، هذا إضافة إلى دعم الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية والمقاومة الإسلامية الوطنية من خلال الاستراتيجية الدفاعية التي تملك الوسائل المتنوعة لردع العدوان في أيّ زمان.
ومن جانب آخر، فإن الحفاظ على أمن الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم في أية منطقةٍ يعيش فيها اللصوص والقتلة والمفسدون في الأرض، هو مسئولية الأجهزة الأمنية والمواطنين جميعا، لأنه لا استقرار سياسيّا من دون استقرار أمني، مع ملاحظة مهمة، وهي أن على الدولة أن تؤمّن للمناطق المحرومة حاجاتها الخدمية، ومشاريعها التنموية، وأوضاعها الأمنية، لأن الحرمان قد يغري البعض بالقيام بالإخلال بالأمن وإرهاب الناس بالوسائل غير المشروعة، ذلك أن الاسترخاء الأمني وفقدان العدالة قد يؤدي إلى النتائج السلبية في حياة المواطنين.
ويبقى لبنان في داخل الدوّامة السياسية التي يتقن القائمون عليها أساليب الاتهامات التخوينية باللصوصية، وسرقة المؤسسات، والتخطيط لعودة الوصاية، والإخلال بالتوازن الوطني، والضغط الضريبي على المواطنين من أصحاب الدخل المحدود، وتطيير النصاب في المجلس النيابي لمنع بعض القوانين المرتبطة بالتخفيف عن المواطنين في أوضاعهم المعيشية، والعمل النيابي على العفو عن المجرمين ونسيان الجرائم التي قام بها رموز الحرب الأهلية في التفجيرات التي دمّرت البنية التحتية للبلد، وخربت الذهنية التعايشية، ما يدل على أنهم لا يصلحون لأن يمثّلوا الشعب الذي نغّصوا حياته، وذلك إضافة إلى قانون الانتخابات الذي يحوّل اللبنانيين إلى قطع طائفية متناثرة يبحث زعماؤها عن تضخيم مواقعهم الحزبية والمذهبية والشخصانية، بدلا من الالتزام بقانون النسبية في لبنان الدائرة الواحدة، والذي يوازن بين الطوائف ويعطي لكل ذي حقّ حقه.
إنه العبث السياسي الذي يتعّبد فيه الواقع لصغار الفراعنة، ولصوص المشاريع، وسرّاق الأموال الخارجية لحساب السياسات الإقليمية والدولية، ليبقى لبنان ساحة للاستعراضات الداخلية والتدخّلات الخارجية.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2423 - الجمعة 24 أبريل 2009م الموافق 28 ربيع الثاني 1430هـ