الثلثاء الماضي، كنت من بين عشرات المدعوين من الصحافيين والمسئولين لحضور حفل تخريج الدفعة الأولى من شرطة المجتمع في الأكاديمية الملكية في قرية "جو". وعدا البهجة والاسترخاء الذي غلب على أجواء الاحتفال، استوقفني اعتذار الوزير الشيخ راشد بن عبدالله لإحدى الخريجات التي لم يناد عليها في طابور التخرج. انتبه المنظمون للخطأ وسعوا لتداركه أثناء الاستراحة، فبادر الشيخ راشد بالاعتذار أمام الجميع وقام بتسليم الشرطية شهادتها بعد أن دقت الأرض بخطواتها العسكرية وادت التحية وسط تصفيق حار من الحاضرين. صفقنا بحرارة للخريجة التي تستحق التحية ولشجاعة الوزير في الاعتذار عن خطأ تسبب به القائمون على الحفل. لكن هذا يبقى على رغم دلالاته حدثا استثنائيا، اما الأهم فهو ما جرى طيلة الساعات الخمس في الأكاديمية. فعلى مدى هذه الساعات كانت أكثر العبارات التي تتكرر هي "الشراكة مع المجتمع". كانت تطرح بصيغ مختلفة وتنويعات كثيرة كلها تدور حول كلمة أصبحت مفتاحية في خطاب مسئولي وزارة الداخلية. ولأن آذاننا قد تعودت على كلمات من نوع آخر طيلة عقود، كان من السهل التقاط هذه الكلمات الجديدة: "الشراكة بين رجال الأمن والمجتمع"، "الشفافية"، "حقوق الإنسان" وشرطة "تمثل أطياف المجتمع". الشراكة تعبير يستخدم لتوصيف علاقة تقوم على "الندية" و"الاحترام المتبادل". وعندما تحلقنا حول الشيخ راشد بأسئلتنا، بادرنا بعد انتهاء الأسئلة: هناك سؤال لم تسألوه. وزاد: لم تسألوني عن اختيار أفراد شرطة المجتمع. أود التأكيد هنا أنهم يمثلون كل أطياف المجتمع البحريني. مثل هذه الدقة في التوصيف والحديث عن أطياف المجتمع مفردات جديدة في لغة وخطاب المسئولين بوزارة الداخلية. وعلى مدى ساعتين تقريبا، تحدث رئيس الأمن العام اللواء عبداللطيف الزياني عن خطة تطوير الوزارة والأهداف والفلسفة والمقاربات الجديدة في العمل الأمني، بدأ وكأنه محاضر أكاديمي يتحدث أمام مديري شركات. وعدا الهياكل والجداول الزمنية والأهداف وفلسفة التغيير والعرض التفصيلي بالكمبيوتر، تكررت المفردات نفسها: الشراكة، دقة تنفيذ الواجب، الكفاءة، المسئولية المتبادلة، الشفافية، حقوق الإنسان. وفي غمرة الأسئلة والإجابات، القى آمر الأكاديمية الملكية للشرطة العقيد ابراهيم حبيب بعبارة أخرى: "ابتسامة الشرطي تقابلها ابتسامة المواطن". هذه مفردات جديدة، وبإمكان المرء ان يدرك المدلول ويلمس تغير المفردات وهو يمر على مبنى السجن المركزي قبل لحظات من الاحتفال عندما تتداعى الذكريات والحكايات عن هذا السجن حتى سنوات قليلة مضت. اما الالحاح على الابتسامة المتبادلة بين الشرطة والمواطنين، فهي تدفعنا لاريب لاستعادة تلك الوجوه المتجهمة لرجال الشرطة فيما مضى والتوتر الذي يعترينا لحظة الوقوف أمام شرطي. كنا ندخل مراكز الشرطة تسبقنا مشاعر الخوف والتوتر. فعلاقتنا برجال الشرطة كان محورها الخوف، اما اليوم فيراد لهذه العلاقة ان تبنى على أسس جديدة: شراكة وابتسامات متبادلة. وعندما سألت الشيخ راشد بن عبدالله عما إذا كان بإمكاننا أن نتوقع قيام رجال الشرطة بتلاوة حقوق الموقوف لحظة اعتقاله ابتسم وأكد أن حقوق الموقوفين محترمة. وبادر العقيد محمد بوحمود بالقول إن حقوق الموقوفين معلقة في لوحات كبيرة في كل مراكز الشرطة منذ ثلاث سنوات. سألت اللواء الزياني عما إذا كانت هناك صعوبات تبرز أمامهم في خضم عملية التغيير والتطوير هذه. سأل: هل تقصد أن هناك معارضة للتغيير؟ وراح يسهب في شرح أهداف التغيير ملخصا اياها في أن التغيير ضرورة يأتي في ظل التغيير الذي أحدثه المشروع الإصلاحي. وزاد بأنه ليست هناك معارضة للتغيير أو التطوير وان جميع الضباط وضباط الصف قد أدخلوا في مشروع "إدارة التغيير". ثمة كلمة جديدة أخرى، لكنها وردت في شرائح الكمبيوتر أثناء الشرح عن الأهداف السبعة للتغيير: "حماية الديمقراطية والبعد عن التسييس". وإذا كنا سننظر بإيجابية إلى ابقاء رجال الشرطة بعيدا عن السياسة والتحزب لأنه ضمان لنزاهتهم وحيادهم وحسن أداء الواجب، فإن "حماية الديمقراطية" ستبقى هي الغاية الأهم لرجال الشرطة. حماية الديمقراطية لا تحتاج إلى تفسير: حماية حريات الناس بالمفهوم الاشمل للكلمة. هذه مهمة ليست سهلة على الاطلاق لمن اعتاد على القسر في علاقته مع المجتمع. الآن يراد لهذه العلاقة أن تتحول لشراكة وليس على الوزارة سوى تحقيق أهداف التغيير السبعة التي عرضها اللواء الزياني: تطوير صفات الشرطي، التصرف السليم، الاحتراف والتميز، المرونة والارتقاء، الشراكة مع المجتمع، البيئة الأمنية وأخيرا الجاهزية الأمنية. الأهداف الثلاثة الأولى تمس رجال الشرطة أنفسهم. هذا معناه من بين معان أخرى تطوير مقاييس اختيار أفراد الشرطة إلى الحد الذي يجعلنا نتخيل أفراد شرطة جامعيين أو خريجي معاهد ويتقنون لغات أجنبية مثلا. شرطة المجتمع تضم بعضا من هؤلاء حسبما سمعنا أثناء الاحتفال، لكن الأهم من ذلك رجال ونساء يؤمنون بالديمقراطية من أعماقهم، لكي يحموها. بيننا وبين الذكريات السيئة والعلاقة التي اختزلها الخوف مسافة مازالت باقية والتغيير لا يحتاج إلى أكثر من إرادة قوية وقرار واضح وصبر ومثابرة. لكن ثقوا تماما، في اليوم الذي سيبادرنا رجال الشرطة بالابتسام وتختفي شكواهم من فوضى الديمقراطية ويزايلهم الحنين للأيام الخوالي، يمكن أن نشعر بأننا قد تغيرنا قليلا وبأننا قد تعافينا من ماضينا المثقل الذي مازال يشدنا للوراء. المهمة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة والاهم هذا ما نتوقعه.
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1114 - الجمعة 23 سبتمبر 2005م الموافق 19 شعبان 1426هـ