في الأسبوع الماضي انتعشت مجددا نظرية "المؤامرة". وازدهار النظرية من جديد جاء في مناسبة اعتقال الشرطة العراقية جنديين بريطانيين في البصرة تبين لاحقا أنهما من عناصر "الموساد". النظرية سياسية إذا وليست باطلة كلها وهي تستند أحيانا إلى حوادث غريبة يصعب تفسيرها أو تقديم أجوبة منطقية بشأنها. فالمؤامرة في النهاية هي نتاج خطة مدروسة تقوم على معرفة بالسياسة والتاريخ والجغرافيا وتستند إلى معلومات دقيقة تتصل بالتنظيمات الاجتماعية والعلاقات والحساسيات. والمتآمر يعرف تماما من "أين تؤكل الكتف" وكيف يستغل المشكلات ويعيد توظيفها خدمة لأغراض أخرى يستفيد منها مباشرة أو على الأمد الطويل. من الخطأ المبالغة في تضخيم "المؤامرة". فالمبالغة في الشيء تعطيه عناصر غير واقعية وتخدم أحيانا "المتآمرين" حين تتحول إلى مرض نفسي لا يستند إلى المعلومات ولا يقرأ جيدا الوقائع. كذلك إسقاط "المؤامرة" من الحسابات واعتبارها ضربا من الأوهام يؤدي إلى نمو نوع من السذاجة المفرطة في الوعي السياسي، ويتحول الضحية إلى مساحة مفتوحة للمتآمرين لممارسة خططهم المدروسة بقصد اشاعة الفوضى والفتن وعدم الاستقرار واعطاء ذريعة للقوي في استكمال مشروعه. "المؤامرة" موجودة وهي جزء من سياسة وليست السياسة كلها. والمتآمر عادة يتمتع بالوعي والقدرة على الضبط والتنظيم وتوجيه الحوادث من خلال اللعب على التناقضات وإدارتها باتجاه يخدم مصالح الدولة التي يعمل لها أو الجهة التي ينفذ خططها. وزاد طين "المؤامرة" بلة ذاك الحادث الغريب "المشبوه" الذي وقع في البصرة بين الشرطة العراقية والقوات البريطانية. وأغرب ما حصل هو إسراع القوات البريطانية إلى اقتحام السجن و"تحرير" الرهينتين ومصادرة وثائق مهمة تتصل بالتحقيق الأمني معهما. السرعة البريطانية في اقتحام السجن وردة الفعل عززتا فكرة "المؤامرة" وأثارتا أسئلة غريبة متعلقة بوقائع الحادث ودور رجال الاستخبارات الأجنبية في التخفي بلباس عربي والتكلم بلكنة عراقية والتسلل إلى مراكز دينية ونسفها وحرقها أو تفخيخها بالمصلين والمؤمنين بقصد اثارة فتنة طائفية "فرق تسد" بين أبناء الشعب الواحد... أو اتهام إيران بها لتغطية سياسات إقليمية يتوقع حصولها مستقبلا. نضع نقطة على السطر، ونترك المقال لمسئول في مديرية الجرائم الكبرى في محافظة البصرة يتحدث عن الأمر. قال: "إن الجنديين كانا يعملان لحساب الموساد "الإسرائيلي" وانهما كانا يخططان لتفجير مزار بغية احداث مشكلات طائفية مع السنة". هذا أولا. ثانيا، قال محافظ البصرة محمد الوائلي: "إن مجلس المدينة تعهد بعدم التعاون مع القوات البريطانية إلى أن يتلقى اعتذارا وتعويضا عن اقتحام القوات سجنا بالبصرة لتحرير الجنديين". ثالثا، أوضح مسئول أمني عراقي في البصرة ملابسات الحادث فقال: "أتتنا اخبارية بأن شخصين يرتديان ملابس مدنية وبحوزتهما أسلحة ومتفجرات فهاجمناهما وألقينا القبض عليهما. واتضح أنهما يعملان لصالح المخابرات الإسرائيلية وجهات تخريبية وضبطنا معهما مواد متفجرة تستهدف احداث بلبلة في البلاد". كلام المسئولين السياسيين والأمنيين في البصرة يفسر الكثير من ملابسات الحادث ومخاوف القوات البريطانية من انكشاف الأمر وانفضاح سياسة التفرقة التي تقوم بها جهات مجهولة العنوان والاسم في مختلف أنحاء العراق. فهذه الأفعال المجنونة التي افتعلت منذ الاحتلال ضد مراكز الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية والمعابد الدينية الشيعية والسنية والكنائس لا تخدم في النهاية الا الاحتلال الذي يبحث عن ذرائع "الفوضى وعدم الاستقرار" لتبرير وجوده العسكري متهما تارة سورية وطورا إيران بالوقوف وراء تلك التفجيرات التي تضررت منها المقاومة العراقية كثيرا. نظرية "المؤامرة" إذا ليست مفبركة "مختلقة" فهي في النهاية سياسية تقوم على المعرفة الدقيقة بأحوال البلاد والعباد، وتعتمد الدقة في التنظيم والتخطيط واستخدام جهات ثالثة ورابعة وخامسة لارتكاب أفعال تصب في النهاية في مصلحة الطرف الأقوى في المعادلة. والطرف الأقوى في معادلة العراق حتى الآن هو الاحتلال في شقية الأميركي والبريطاني وبينهما "الموساد" الإسرائيلي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1114 - الجمعة 23 سبتمبر 2005م الموافق 19 شعبان 1426هـ