بدأ الوهن المتعاظم للولايات المتحدة الأميركية نتيجة تورطها في العراق ينعكس سلبا على نفوذها ومصالحها في الشرق الأوسط، ما دفعها إلى تعويض ذلك عبر التركيز على منطقة المغرب العربي. لذلك يجب على دول هذه المنطقة توقع ضغوط من كل نوع في الأشهر المقبلة. "ان الإدارة الأميركية لا تريد الاقرار بفشلها الصارخ في العراق". هذا ما أشار إليه دبلوماسي فرنسي كبير عمل في المملكة العربية السعودية وسورية والعراق، خلال حلقة دراسية مصغرة عقدت في مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسيل مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الجاري. ويؤكد هذا الخبير بالعالم العربي ان الإدارة الأميركية ستجد نفسها مضطرة إلى التخفيف من آلامها من خلال التعويض في منطقة شمال افريقيا. فالتدخل المفاجئ والحازم في قضية الصحراء الغربية، وما رافقه من ضغوط "غير مرئية" على الجزائر لحملها على اجبار جبهة البوليساريو لاطلاق سراح نحو 400 أسير مغربي موجودين في مخيمات "تندوف" منذ عقود ليس الا بداية لمحاولة السيطرة الكاملة لأميركا على هذا الجزء من العالم العربي، وخصوصا عندما ندرك أن إدارة بوش تريد استخدام هذه المنطقة منصة للقفز على القارة السوداء. فالولايات المتحدة لم تتوقف منذ أكثر من سنتين عن بذل الجهود المكثفة للتموضع في افريقيا على حساب مستعمريها السابقين، وذلك سواء عبر تقديم المساعدات الانسانية، أو اعداد برامج التنمية المختلفة ناهيك عن، وهو الأهم، التقرب من الدول الغنية بالنفط. في السياق ذاته، تسرع واشنطن خطاها باتجاه تطبيع علاقاتها مع ليبيا، فاللقاء الذي جرى منذ أيام على هامش اجتماعات الأمم المتحدة بين وزير الخارجية الليبي عبدالرحمن شلقم ونظيرته الاميركية كوندليزا رايس وما صدر عنه من تصريحات ايجابية في هذا الشأن يندرج في في اطار احكام سيطرتها على المغرب العربي. وتفيد بعض المصادر الليبية المقربة من اللجان الثورية أن التقارب الحاصل وصل الى مدى بعيد من المستبعد معه الرجوع بعد الآن الى الوراء. وعلى النظام الليبي ان يراجع جميع حساباته السياسية والاقتصادية بحيث يتمكن من التأقلم مع المعطيات الأميركية المفروضة، لكن هذه المصادر عادت وأكدت ان الوضع في الجماهيرية يوصف اليوم "بالرمادي"، وبأن قائد الثورة على رغم جميع المظاهر محشور لأول مرة منذ 36 عاما في الزاوية.
الجزائر والجرافة الأميركية
أما فيما يختص بالجزائر فإن الولايات المتحدة باتت تسجل النقاط المتتالية على جميع المستويات، يؤكد المراقبون في هذا الصدد أن "الجرافة" الاميركية نجحت في إزالة مصالح تقليدية مهمة لفرنسا، وخصوصا في مجال الطاقة، فالاقتراع الأخير الذي جرى في شهر ابريل/ نيسان الماضي، على مشروع القانون المتعلق بالهيدروكربورات الذي ينص على فتح هذا القطاع امام الاستثمار الأجنبي تحديدا أمام الشركات النفطية والغازية الاميركية على غرار "اكسون موبيل" و"وأنا نداركور" لم يتم الا بضغط هائل من قبل أميركا، هذا ما قاله علنا الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في خطابه في شهر مارس/ آذار الماضي خلال مؤتمر "الاتحاد العام للعمال الجزائريين". هذه المركزية النقابية التي سبق منذ سنتين تقريبا ان وقفت في وجه مشروع القرار هذا وعمدت الى إعلان اضراب شامل شل البلاد في حينه وأسقط المشروع في البرلمان. ففي خطابه هذا تحدث بوتفليقة بلهجة شبه تهديدية قائلا: "اذا رفضنا للمرة الثانية هذا المشروع، فإن مصيرنا سيكون مشابها لمصير العراق وأفغانستان". لا أحد في الجزائر، مسئولين، نقابيين وعسكريين يشك بعد الآن في حجم الاختراق الاميركي للمنطقة، فالزيارات المتكررة التي قام بها كبار المسئولين الاميركيين لبلادهم تضاعفت بمعدل 15 مرة بين عامي 2004 و2005 في حين ان سفير الولايات المتحدة يقوم بزيارات دورية للمدن والقرى الجزائرية حتى النائية منها مقدما النصح والمساعدات العينية إلى قطاعات التعليم والصحة والزراعة، هذا في حين يكتفي نظيره الفرنسي بمرافقة الحجاج اليهود من اصل فرنسي في زياراتهم لأوليائهم في مدينة تلمسان، ومازاد في الطين بلة تصويت الجمعية الوطنية على القانون الذي يعتبر الاستعمار شيئا ايجابيا. وبشكل مواز ودائم لتحقيق الهدف نفسه المتمثل في وضع اليد على منطقة المغرب العربي تمكنت واشنطن من ادماج الجزائر في استراتيجيتها الشمال افريقية، فالزيارات المتتالية للفرقاطات والسفن الحربية التابعة إلى الأسطول السادس للمرافئ الجزائرية كذلك القيام بمناورات مشتركة بحرية في المتوسط وبرية في الصحراء على الحدود مع ليبيا والنيجر ومالي، لا يمكن الا ان تعزز مواقع اميركا في بلد المليون شهيد، هذا ما يقلق الفرنسيين أكثر فأكثر، وخصوصا عندما يسمعون الرئيس بوتفليقة يردد في غالبية المناسبات أن "على فرنسا ان تعتذر إلى الجزائريين عن المجازر التي ارتكبتها"، كذلك التذكير بأن الاستفزازات الصادرة عن بعض المسئولين الفرنسيين يمكن ان تنعكس سلبا على معاهدة الصداقة والسلام المفترض ان توقع قبل نهاية العام الجاري بين البلدين. في هذا الاطار تردد مصادر فرنسية رفيعة المستوى أن لديها معلومات تفيد بأن واشنطن تمارس ضغوطا هائلة منذ أشهر لدفع الرئيس الجزائري إلى التراجع عن توقيع هذه المعاهدة.
المغرب الحليف الأكبر
وفيما يتعلق بالمغرب يرى المحللون السياسيون أن الولايات المتحدة ليست بحاجة الى ممارسة ضغوط على المملكة من أجل تحسين مواقعها فيها، ولا بحاجة إلى احداث اختراقات جديدة تساهم في مساعدتها على بسط سيطرتها الكاملة على المنطقة. فالمغرب كان على الدوام، ومنذ عقود طويلة الحليف الاقوى لاميركا في شمال افريقيا. حتى ولو بقي المغاربة يتحدثون بغالبيتهم الفرنسية، فالتنسيق في المجال العسكري الأمني والسياسي بين البلدين، كان دائما مثاليا، كما تعزز بشكل ملفت خلال السنوات الأربع الأخيرة، تحديدا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر ،2001 فالتوقيع خلال العام الجاري على اتفاق التبادل الحر بين واشنطن والرباط لا يمكن الا ان يشجع هذه الاخيرة على الذهاب بعيدا بالتزاماتها الى جانب الاميركيين. ذلك على رغم اتفاق الشراكة الاقتصادية الموقع منذ سنوات مع الاتحاد الأوروبي وأيضا بغض النظر عن كون فرنسا لاتزال المستورد الاول والمصدر الاول للمغرب. من جهة أخرى يؤكد المراقبون أن واشنطن تعلق أهمية قصوى على الدور الذي يمكن ان تضطلع به المملكة المغربية في محيطها العربي وفي جوارها الافريقي كذلك فيما يتعلق بالمبادرات التي يمكن ان يتخذها عاهلها على صعيد عملية السلام في الشرق الأوسط في الموعد المحدد وينبغي التذكير بأن الملك محمد السادس يرأس "لجنة القدس". من ناحية أخرى فإن العلاقات الوثيقة المبنية على الثقة بينه وبين الادارات الاميركية جمهورية أو ديمقراطية جعلت من هذا البلد ضرورة في البناء المغاربي، الأمر الذي يسهل وضع اليد بالجملة على المنطقة من قبل الاميركيين الذين يحاولون اليوم تعويض خساراتهم في الشرق في سبيل ذلك أيضا تعمل واشنطن حاليا على تدوير زوايا الخلاف بين الجارين المغاربين الأكبر واحداث تقارب بأسرع وقت.
تونس والضغوط الناعمة
أما بالنسبة إلى تونس فإن الإدارة الأميركية تمارس ضغوطا "ناعمة" عليها وذلك لأن هذا البلد أعطى مثالا على الاستقرار ومحاربة التيارات الدينية المتطرفة وحافظ على المصالح الاستراتيجية لها في المنطقة. ويلعب من حين إلى آخر دور الجامع بين دول اتحاد المغرب العربي ما يسير بنهاية الأمر باتجاه السياسة الهادفة إلى إدارة بوش في المنطقة. في هذا السياق تجدر الاشارة الى ان مبادرة "ايزنستان" بنهاية عهد الرئيس كلينتون اطلقت من تونس. هذه المبادرة للشراكة الاقتصادية يمكن ان تدمج في الاستراتيجية الجديدة لشمال افريقيا، في ظل هذا التصور لا يمكن لتونس ان تشكل تحت اي ظرف حجر عثرة بل على العكس من ذلك فإنها يمكن ان تسهل كثيرا من مهمة الاميركيين مع المحافظة على التوازن في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وفرنسا، فتونس اثبتت دائما قدرتها على البقاء في الوسط على رغم من الحساسيات الموجودة لدى الاطراف الغربية المعنية وحتى الشمال افريقية.
موريتانيا والاعتراف الخجول
أخيرا تظهر الطريقة التي تعاطت بها واشنطن مع النظام الجديد في موريتانيا بأنها مدركة تمام الادراك للحقائق الموجودة على الأرض، لذلك فإن اعتراضها "المبدئي" على الانقلاب كان في الوقت نفسه خجولا ومحسوبا وذلك لأن الاساس بالنسبة اليها تلخص في كون القادة الجدد يؤيدون 100 في المئة المشروع الكامل للسيطرة على الاميركيين على منطقة المغرب العربي. هذا ما تم ابلاغه بعد ساعات من الانقلاب للسفير الاميركي في نواكشوط من قبل الرجل القومي الجديد للنظام الموريتاني بعدها اعطى الضوء الاخضر لدول المنطقة لمباركة النظام الجديد وتتالت زيارات المبعوثين الشخصيين كما اعلن الرئيس المخلوع ولد الطايع عدم تمسكه بالسلطة. ان المعطيات الواردة اعلاه تظهر أن الطريق مهدت تقريبا للمشروع الأميركي في منطقة المغرب العربي مع ذلك يرى المحللون بأن الأمر يبقى مرتبطا بمدى الخسارة في العراق، وايضا بنتيجة عملية اختبار القوة مع ايران والتي ستبدأ في الايام القليلة المقبلة. ذلك من دون التقليل من أهمية رد الفعل الفرنسي، فباريس لن تتنازل بسهولة عن مواقعها في المنطقة فتحالفاتها وشبكاتها ورجالاتها الموجودون منذ عقود طويلة يمكن ان يحدوا من الاختراق الاميركي. * باحث سياسي واقتصادي لبنا
العدد 1112 - الأربعاء 21 سبتمبر 2005م الموافق 17 شعبان 1426هـ