قبل الانتخابات السابقة، نظمت ندوة عامة شارك فيها عدد من الأسماء البارزة في المعارضة. كان المزاج العام حينها يميل إلى المقاطعة لاعتبارات معروفة، يدل عليه ما جرى يومها لأحد المتحدثين بعد استدلاله بتجربة الأردن ومقاطعة الإسلاميين للانتخابات، إذ أفلتت أعصاب أحد الشبان وأخذ يصرخ صراخا عاليا، ويرمي المتحدث بكلمات غير لائقة. في تلك الفترة، تم استمزاج الآراء بين الجمعيات السياسية الفاعلة، التي ورثت مرحلة النضال السري، وتم اتخاذ قرار المقاطعة بعد دراسة وتشاور وتنسيق، والتزم الجميع بالقرار. وكان هناك حتما من يرى المشاركة حتى من بين القياديين، لكنهم التزموا الصمت احتراما لرأي الغالبية، لذلك عندما صدرت تلميحات قبل أشهر من بعض هذه الشخصيات بشأن موقفها غير المعلن، أصيب الكثيرون بصدمة. البعض اعتبرها غموضا، والبعض اعتبرها نوعا من التردد، لكن ما لا شك فيه كان هناك تقدير من هؤلاء للرأي العام واحترام لخياراته، وهو أمر يحسب لهم: "أن تتنازل عن رأيك لصالح الجماعة على رغم قناعاتك الراسخة". اليوم يعلن بعض المتحدثين ان "المقاطعة كانت خيارا خاطئا"، وبغض النظر عن ادعاء البطولة والذكاء في مثل هذا الاعلان، إلا ان ما ينسونه هو ان القرار لم يفرضه أحد، فهذا ما اختارته تلك الكتلة الكبيرة من جمهور "انتفاضة التسعينات"، الذي تمثله الوفاق، وجمهور بقية الجمعيات المعارضة ذات التاريخ النضالي الطويل. هذه الجمعيات تمثل في مجملها ضمير الشعب البحريني ومزاجه العام بامتياز. و"التذاكي" وادعاء الفهم فوق ظهر هذا التحالف العريض هو نوع من البطولة الزائفة. التحالف في السنوات الثلاث الأخيرة، مر بأوقات صعبة، فلم يتوقف الحكم عن محاولات التهميش وإخماد "الصوت الآخر" وتضييق الخناق عليه، وملاحقة الندوات والاجتماعات العامة، وتحشيد أقلام "الموالاة" ضد كل عمل يقوم به التحالف... حتى وصلنا إلى مرحلة إعادة القوانين القديمة في ثوب جديد. كل هذا التصعيد والتحشيد والتضييق على مدار ثلاث سنوات، استطاعت المعارضة امتصاصه، وما القانون الأخير الذي أثار كل هذ الجدل في الساحة إلا طعم صغير، ستمتصه المعارضة كما امتصت القوانين السالفة، لأنها ببساطة ليست أندية صغيرة أو مقاه للانترنت، وإنما قوى سياسية فاعلة من صلب هذا المجتمع، لها أجندة وطنية بحتة، تهدف إلى خدمة إنسان هذا البلد ورقيه والدفاع عن مصالحه، وحفظ حقوق وكرامة أجياله. الخطر على التحالف ليس من قانون مستحدث، ربما تقبل به الجمعيات مكرهة، وانما الخطر من عدم وجود آلية سليمة لاتخاذ القرارات الأكبر. هنا نحن ندفع جزئيا ثمن التخلف الحضاري العام، ففي كل العالم يجري اتخاذ القرارات، على مستوى الدول والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وفق آلية التصويت، كأفضل طريقة متاحة للوصول إلى قرارات إجماعية أو شبه اجماعية، إلا نحن... فلا نرى غير الأبيض والأسود، و"رأيي لا يحتمل الخطأ ورأي غيري لا يحتمل الصواب"، وإما أن تسيروا ورائي وإلا فإنكم مخالفون لله ورسوله وللشرع الحكيم... وهذا هو أخطر من قانون الجمعيات. إذا "انشغلنا" بهذا القانون الصغير، ودخل الشارع في حرب "الفتاوى" و"الفتاوى المضادة" فإننا لن نخرج من هذا النفق إطلاقا، وسيكون ذلك على حساب القضايا الجوهرية التي تقض مضاجع الوطن منذ عقود. فهل أنتم بحاجة إلى التذكير بنظرية "الانشغال والاشتغال" بالسياسة؟ القانون الجديد ما هو إلا جولة صغيرة في صراع وطني طويل، ولا تنسوا أكبر مكسب تحقق للتحالف في الفترة السابقة: السير يدا واحدة في طريق وعر على رغم كل المطبات التي نصبها الحكم للإيقاع بكم. لست هنا داعية مشاركة ولا مقاطعة، ولا يهم التسجيل من عدمه، المهم أن يتخذ أي قرار في ظل توافق جماعي، وان تحترم وجهة نظر الغالبية، أما تحكم الأقلية في القرارات المصيرية فهو بداية فرض الوصاية والاستبداد الذي نهض التحالف من أجل معالجته ليصلح حال الوطن. أخيرا، العالم المتحضر كله يسير على هذه القاعدة العقلانية، وهي ليست "بدعة" نستوردها من الغرب، بل هي من صميم مبادئ الإسلام، والنبي "ص" كان يشاور أصحابه، ليس "تطييبا" للخواطر كما يقول البعض، فالقرارات المصيرية كالحروب لا تخضع للخواطر، انما هي سياسة من الدرجة الأولى، تراعي جانب الأغلبية، حفظا للوضع الاجتماعي العام. فجنبونا من حرب الفتاوى يرحمكم الله!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1111 - الثلثاء 20 سبتمبر 2005م الموافق 16 شعبان 1426هـ