حين نقوم بمراجعة بسيطة للخطاب السياسي البحريني خلال السنوات الأربع الماضية، وحين نحاول في هذه المراجعة تحديد الأطر الحاوية لهذا الخطاب بشقيه الحكومي والمعارض، فإننا نجد الكثير من المفارقات المهمة. بعض هذه المفارقات يعود إلى تاريخ الحركة السياسية في البحرين خصوصا منذ الثمانينات، والبعض الآخر مرتهن بالحال السياسية اليوم، وأعني بمفردة "اليوم" ما يحمله الواقع السياسي من متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية. هذه القراءات تزداد أهميتها خلال هذه الفترة الدقيقة من تفكك التلفيقية السياسية لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، ورجوع كل طرف لخطابه المؤسس ما يمثل خطورة وسهولة في التعاطي السياسي بازدواجية ننتظر أن تنكشف أسرارها خلال المرحلة المقبلة. هذه المراجعة للخطاب السياسي الوطني تقتضي تأسيس مرحلة جديدة من المراجعة والتدقيق لمجمل المفاهيم السياسية التي أصبح رواجها يمثل "منطقة خطرة" في الحياة السياسية في البحرين، مهما اختلفت أولويات العمل السياسي من فئة لأخرى، فإنه من الواجب أن يعاد تأثيث شتى الخطابات السياسية بشتى الأولويات بلغة سياسية جديدة تتصف بأنها أبعد ما تكون عن النهايات الدعائية التاريخية والتشنج السياسي على مستوى الديناميكية. ولابد أن تتمتع هذه الخطابات بالقدرة على زيادة الفاعلية لشتى الحوارات السياسية و"شرعنة" الموازنات السياسية بين الدولة والمعارضة بما يكفل تحقيق أكبر قدر من النضوج السياسي المتمدن. مفصليات الخطاب السياسي أولا: لابد من ملاحظة خاصية مهمة في الخطاب السياسي على مستوى الحكومة، هذه الخاصية خلقت واقعا سياسيا جديدا ولو على صعيد الفهم لمجريات الفعل السياسي الحكومي سواء من قبل المتلقين "الجمهور الشعبي" أو من قبل الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، الحكومة استطاعت تارة عبر نفس الوجوه القديمة المتجددة نفسها أن تصنع لها مرحلة جديدة من الإنتاج السياسي على مستوى الخطاب. وتارة أخرى قامت بتطعيم برامجها وهياكل ممثليها بوجوه سياسية جديدة - بعضها كان محسوبا على المعارضة - قادرة على ممارسة العملية الديمقراطية بأدوات السلطة التقليدية نفسها، هذا ما أسميه بخطاب الحرية الحامل لما هو ضدها، وهذا يشترط أولا وأخيرا أن نتفق على أن العملية الديمقراطية في حقيقتها لا تزيد عن أنها "عملية خداع سياسي". في الجهة المقابلة، لم تستطع الجمعيات السياسية أن تنتج خطابا سياسيا جديدا يساوي متطلبات المرحلة، مازالت المرجعيات الخطابية في الكثير من الفعاليات السياسية متأثرة بنسق الخطاب التاريخي للمعارضة، هذا الخطاب "الخفيف" بمرجعياته التاريخية و"الثقيل" على المستجدات السياسية بعد المرحلة الإصلاحية له اشكالياته الخاصة، وهو بالدرجة الأولى يؤسس بمرجعية تشنجه وظلاميته وجود الكثير من العوائق الثقيلة في التعامل مع ملفات اليوم، ما يسبب صعوبة حلحلتها وتسويتها. إن خطاب الجمعيات - خصوصا رموزه الحديد - مازال يراوح عقلية التشكيك وممارسة هواية الرفض لكل شيء، فكما أن الحكومة تؤجل متعمدة أية استحقاقات دستورية أو تشريعية لما بعد المشاركة والاعتراف الفعلي بدستور 2002 من قبل الجمعيات المقاطعة، فإن المعارضة تتعامل بالمثل عبر تسويق خيار الرفض والمقاطعة لأية مشاركة أو مساهمة في أية فعالية سياسية، حتى لو كانت هذه المشاركة تعود على جماهيرها بأية إيجابية اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية. هذا ما يجعل "المواطن" ضحية الطرفين على الدوام، وهذا ما نسعى نحن في أجهزة الإعلام إلى الكشف عنه، والتحذير منه، والدعوة لتفاديه كل يوم، إلا أن المكنة السياسية تبدو عاجزة حتى اليوم عن تطويع أي من الأطراف نحو طرح مبادرات ومساهمات واقتراحات واقعية تصب في المصلحة العامة للجميع. كل طرف من الأطراف يتمترس خلف نقاط قوته بجمود واضح، الدولة تتمترس بالخطاب الإعلامي الدولي واشاداته بالتجربة الإصلاحية في البحرين، والمعارضة تتمترس خلف أرصدتها الشعبية الجيدة نسبيا. ثانيا: على رغم أن الدولة تصر على زيادة وتيرة القوانين "المرفوضة من قبل الجمعيات السياسية" فإنها تعمد مع كل ردة فعل سلبية على خلق منطقة صغيرة للحوار والمناقشة، بمعنى أنها لا تريد أن تقفل التفاعل السياسي مطلقا، الحكومة عبر تبنيها هذا الخيار تجر الجمعيات السياسية لتبني ردود فعل سلبية، لكنها سرعان ما تتراجع في سياق غير منظم، ولنا على هذا التراجع "الهش" الكثير من المآخذ، وغالبا ما تبدأ الدولة اللعب في منطقة أكثر أمانا، المعارضة في هذا السياق سرعان ما تنتج خطابا متشنجا مشلولا، إذ إن خطاب الجمعيات السياسية المعارضة غالبا ما يكون قاطعا لا يحمل مناطق سياسية فارغة أو مفتوحة للحوار أو المقايضة السياسية، هذا ما أثر ومازال يؤثر سلبا على المعارضة خصوصا بعد المقاطعة للانتخابات البرلمانية ،2002 فالظاهر لنا عبر مجمل التغطيات الخبرية في الصحافة البحرينية أن المعارضة لا تنتج في المعتاد خطابا سياسيا موحد المرجعية. خطابها عادة ما يتسم بصورة من الفوضوية السياسية الواضحة، وهذه الإشكالية المهمة تنعكس بشكل مباشر على الجمعيات السياسية بشتى مرجعياتها الدينية أو العلمانية. وهذا تحديدا ما نجده في النموذج الوفاقي، فقد تم كسر المرجعية الدينية للوفاق بوضوح عبر سلسلة الاستقالات بعد توحد المرجعيات الدينية خلف "خيار التسجيل في قانون الجمعيات"، ولا نهمل الممانعة الوحيدة من قبل القيادات الدينية بصفتها "الشخصانية" أكثر منها كممانعة سياسية أو حتى دينية. ثالثا: ما يعيب الحكومة هو أنها لا تنتج خطابا داعما لمن يساهم ويدعو من داخل الجمعيات لتسوية خلافاتها مع التيارات المتشددة، ويأتي هنا رئيس جمعية الوفاق الإسلامية الشيخ علي سلمان كنموذج مهم، فالشيخ علي سلمان ذو الشخصية "التوفيقية" لما يصعب توفيقه إلا بتلفيقه، يقف قريبا من أن "يكفر" بالتجربة كما صرح مرة من المرات، وهذا يعود إلى الخذلان الذي يتعرض له من قبل الدولة. سلمان كاد في كثير من المواقف أن يفقد ثقله السياسي، وهو متهم من قبل معارضيه بأنه يلقي بنفسه وبجمعيته في أحضان الدولة من دون مبرر، والحكومة لم تذهب يوما من الأيام إلى المراهنة على دوره السياسي، وهي لم تقم بأية مبادرات إيجابية في خطابها لمساعيه الحثيثة. هذا جعل من الشخصيات المتشددة داخل الوفاق قادرة على توجيه الاتهامات له على الدوام بأنه شخصية انهزامية لا تستطيع أن تنتج أكثر من الهزائم والخسائر المتلاحقة. هي الفرصة الأخيرة لعلي سلمان - إن تبنت الوفاق خيار المشاركة في الانتخابات القادمة- ليقنع الشارع ومعارضيه بنجاح تجربته ورؤيته السياسية، ولا اعتقد أن الكرة تتحرك اليوم في ملعبه، هي في ملعب الدولة، فإما أن تتعاطى معه بإيجابية تجعله قابلا للبقاء سياسيا وشعبيا، أو أن يخرج لها "الخيار المر" عبر صعود سياسي جارف للأسماء المتشددة في مشهد سياسي مثير وغير محمود العواقب على الجميع. الإعلام لا يسعه إلا الحياد، تلك خياراتهم، وألعابهم السياسية، لكننا نركز فقط على محور الإنسان، فلتلفق الأمور أو ترتب، المهم هو أن يكون الإنسان البحريني أحد الأرقام في حسابات الساسة، حكومة كانوا أو معارضة.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1111 - الثلثاء 20 سبتمبر 2005م الموافق 16 شعبان 1426هـ