الكل على علم وخبر بأن التمكين السياسي للمرأة كمفهوم وشعار ليس اختراعا جديدا ولم يأت من فراغ. هذه واحدة، والثانية، بأنه الابن الشرعي الذي تمخض عن الاتفاقات والمعاهدات الدولية، لاسيما اتفاق القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "السيداو"، وبالتالي لا مناص من التعاطي معه إلا في سياقه التاريخي والضرورة التي أنتجته. والأهم من هذا وذاك، لجهة ارتباطه الوطيد بالنشاط السياسي المعارض منه أو الموالي لأنظمة الحكم. الشعار من دون شك بحاجة إلى فسحة واسعة من الحرية والدينامكية لكي ينسجم مع جوهر ومفاهيم الحقوق الإنسانية وبرامج التنمية البشرية المستدامة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليحقق بالتالي الغاية منه. هو قيمة ومبدأ والتزام يفرض على الدول ومنها طبعا مملكة البحرين القيام بتحقيقه كآلية حسبما جاء في بنود اتفاق "السيداو". الشعار فيه حماية لحقوق النساء، وتلبية لاحتياجاتهن، وهو ليس غاية، ولا هدفا تسعى إليه المنظمات الرسمية أو المدنية الأهلية، إنما آلية فعالة متى ما أتقن إنجازها من أجل تحقيق هدف أشمل، ألا وهو وصول المرأة إلى مواقع صنع القرار ومشاركتها الفعلية في صنعه لا مشاهدته والسماع به، وترديده كالببغاوات. ولعلنا هنا، نتوقف ونجادل التجربة البحرينية بشأن تطبيق هذا الشعار، إذ ثمة شوائب تتخلل شكله ومضمونه، وهي للمتابع والمحلل، تعد مؤشرات تستوجب مساءلة الأطراف المعنية بالحديث عنه، سواء أكانت رسمية تتربع على عرشها وزارة الشئون الاجتماعية، والمجلس الأعلى للمرأة، أم جمعيات نسائية ومؤسسات أهلية. هذه الجهات، وبحسب اعتقادنا، لم تكتف بإفراغ الشعار من مضامينه وجوهره، بل صادرت وظيفته الأساسية وجعلت منه غاية، وسخرته لخدمة برامج دعائية وإعلامية وتلميعية للحكم، وإلى بعض الجمعيات النسائية المتكلسة في مواقعها. ومن أبرز تلك المؤشرات التي تشي بالخلل والعلل وتنم عن حال الاستغفال الممارس من كل من الوزارة والمجلس ما تعانيه أجهزة المؤسسة الرسمية من إرث الماضي، ومن إفرازات التضخم البيروقراطي، الذي يفقدها القدرة على التعاطي مع الجمعيات النسائية والمؤسسات الأهلية بروح من الشفافية والشراكة. لاشك إن الحديث هنا عن "الفعل" لا "الكلام الذي يطلق في الهواء". هذه الجهات تضيق الحيز المتاح من حرية النشاط والعمل على المؤسسات الأهلية، ما يفقدها استقلالها النسبي الذي يحافظ على كياناتها ووجودها، وما أدل على ذلك، سوى تصرف وزارة الشئون الاجتماعية أخيرا في ورشة العمل التي نفذتها للجمعيات النسائية والأهلية في 14 الجاري، بشأن تفسير بنود المرسوم بقانون "21" لسنة ،1989 فماذا فعلت الوزارة؟ الوزارة، أعادت طرح نسخة قانون الجمعيات القديم والمتخلف على الجمعيات، وقال خبيرها للحاضرين: عليكم بقبوله أو رفضه. الوزيرة بدورها ذكرتهم بأن القانون "رصين وجيد"، وتجاهلوا كل المقترحات والتصورات والمرئيات والتعديلات التي قدمتها الجمعيات إلى لجنة تفعيل الميثاق، ومن ثم للمجلس الوطني حتى يتدارسها ويقرها لاحقا في صورة قانون جديد يتناسب وطبيعة المرحلة السياسية. إذا حاكموا الأفعال، لا تصريحات النفي والتبرير؟! المجلس الأعلى للمرأة ينجز الدورات وورش العمل، ويستضيف لتنفيذها خيرة الخبرات العربية والدولية لكي يساعدوا نساءنا البحرينيات وكوادر الجمعيات النسائية على الارتقاء بوضعهن، هكذا يصرحون للصحافة، ويتحدثون كثيرا عن الدورات التوعوية التي يناقشون فيها المعوقات التي تواجهها النساء، ومنها العادات والأعراف والتقاليد والثقافة السائدة. كما يتداولون بشأن التشبيك في العمل السياسي والاجتماعي والمؤسسي، وعمليات الحشد والتعبئة في أوساط المواطنين والمنظمات الأخرى، وكله كلام جميل. لاحظوا "الشعارات" اللامعة التي يروجون لها، لقد اقتبستها من تصريحاتهم وإعلاناتهم الإعلامية أخيرا. لذلك من حقنا عليهم كنساء السؤال: كيف ستمكنوننا سياسيا، طالما ظلت الوزيرة على إصرارها في فرض القانون القديم، وإعادة تمريره وإنتاجه في ظل الحراك الديمقراطي، وهو القانون الذي يحظر على المواطنات المنتميات للجمعيات النسائية والأهلية الاشتغال بالسياسة. أليست مفارقة تضعهم موضع المساءلة في شأن تناقض الخطاب والشعارات التي يروجون لها في المنتديات العربية والدولية، وما بين ممارساتهم وأفعالهم مع المؤسسات النسائية والأهلية في الداخل؟! هم أيضا موضع مساءلة عن الكيفية التي ستتم بها عملية التشبيك في العمل السياسي والشراكة التي يدرسونها للنساء البحرينيات في تلك الورش التي يحاضر فيها خبراء وتصرف عليها آلاف الدنانير، كيف وإلى الآن لم يعترفوا بالاتحاد النسائي البحريني، بسبب الضغوط والشروط التعجيزية التي تضعها مباشرة وزارة الشئون الاجتماعية وغير مباشرة المجلس الأعلى للمرأة وعبر خطابه المراوغ والمزدوج الذي يريد احتكار تمثيل نساء البحرين في الداخل والخارج وكأنهم أولياء أمور شرعيون لهن، نسأل ماذا عن عدم نزولكم لعامة هؤلاء النسوة في المدن والقرى وحل مشكلاتهن العالقة مع الفقر والسكن وسوء الحال، أليس ذلك أجدى؟!
سياسة التلميع الخارجي
هناك فجوة عميقة تحتاج للردم بين ما يقال وما يفعل، وما يرغب فيه من طموحات معلنة ومضمرة. الواضح للعيان، هو حرص النظام على تلميع مظهره في الخارج والداخل تجاه شئون المرأة ومشاركتها السياسية، لذلك يجهد المجلس الأعلى للمرأة لتسجيل حضوره ومشاركته في ورش العمل والمنتديات الخارجية، وينتدب مندوباته ليعرضن خطابا واحدا أحدا لا يتغير: "إن الدستور كفل الحقوق السياسية للمرأة بشكل متساو مع الرجل ومن دون تمييز، وعندنا شوريات وكذا وزيرة وسفيرة ومديرة...الخ"! يبقى أن الواقع يؤكد أنها حالات استثنائية تتشكل ويعاد إنتاجها بحسب مقاييس ومعايير نظام الحكم والولاءات، والتوجه للخارج صار عند المجلس الأعلى للمرأة، بهدف تصحيح الصورة النمطية المأخوذة عن المرأة العربية في العالم الغربي، أهم بكثير مما يفرده من أولوية لمعالجة مشكلات النساء الفقيرات، والعاطلات عن العمل، والمسرحات اللواتي فقدن وظائفهن وقطعت سبل الرزق الشحيحة عنهن، وعن مئات الطالبات الشابات اللواتي تخرجن للتو من الثانوية العامة ولم يحصلن على فرص لإتمام الدراسة الجامعية بسبب ظروف أسرهن المادية المتعسرة. كيف يترجم المجلس والوزارة شعار "التمكين" سواء السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي ضمن التزاماته الدولية والإنسانية، في ظل فعل التجاهل والتنكر لتحمل مسئولية فك معاناة النساء البحرينيات. لا أحد يعلم ما في الضمائر، غير أن المراقب والمحلل يتابع الشعارات وورش العمل في فنادق خمس نجوم، والشهادات المختومة التي تمنح للمشاركات الباحثات بعضهن عن مكان في عالم لا يقبل حرية المنافسة ولا يفسح المجال للإبداع بقدر ما يفسحه للثرثرة وترديد الشعارات وتكسير المجاديف. أما دلالات الاختلال لدى بعض الجمعيات النسائية وكوادرها فهي بارزة في نقطتين: أولهما: التباين فيما تطرحه بعض الجمعيات النسائية بشأن برامج التمكين السياسي، وما بين سلوكهن البعيد كل البعد عن التفاعل والتعاطي مع الحدث الآني والمحلي. فهن يفتقدن للرؤى السياسية والمعرفية وبالتالي للموقف المحدد والواضح تجاه قضايا ساخنة، أبرزها المسألة الدستورية، وقانون الجمعيات السياسية الذي أثار ولايزال لغطا كبيرا، بعض تلك الجمعيات "للإنصاف نشدد على كلمة البعض"، وكما نراقب، "لا موقف" لديها ولا يحزنون! والأنكى إن بعضها لا موقف لها ولا هم يحزنون تجاه حتى قانون الجمعيات الأهلية الذي ينظم نشاطها، لاسيما وإن وزيرة الشئون وخبير وزارتها يؤكدان آناء الليل وأطراف النهار، بأنه "ممتاز" ولا ضير فيه كقانون. فكيف سيتم التمكين فعلا إذا لم يكن لتلك المؤسسات النسائية والأهلية رؤية وموقف نضالي يفك الحظر عن ممارسة العمل السياسي للمنتمين إليها. حقا لماذا الصمت والمسكنة؟
قص أشرطة المعارض
النقطة الثانية: غالبية تلك المؤسسات تفتقر إلى علاقة سياسية واعية وناضجة تتعاطى بها مع الجمعيات السياسية الناشطة في الساحة المحلية، فهي أما مؤسسات واجهة وتقع تحت مظلة بعض الجمعيات السياسية، وعليه فهي فاقدة للاستقلالية والإبداع في أجندتها خارج مصالح من تمثله، أو إنها "لا تكش ولا تهش"، ولاتزال أسيرة علاقتها الماضية مع وزارة الشئون الاجتماعية التي كانت ترعبها وتمنعها من الاشتغال بالسياسة. معظم قيادات وكوادر تلك المؤسسات "وللإنصاف نشدد ثانية على كلمة البعض"، فرضت على نفسها الغياب الطوعي وعدم المشاركة في المنتديات والمناقشات ذات العلاقة بالحراك السياسي، ليس لديهن موقف سياسي وواعي للملفات الساخنة، كملف التجنيس غير القانوني، أو ملف الإسكان وقضية الأراضي واستملاكها وعمليات الدفان، أو الفساد وإفرازاته من بطالة وتسريح لعاملات مصانع الملابس، ولا الغلاء وارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور، لا شأن لهن بما يدور بشأن قانون العمل في القطاع الأهلي. هؤلاء الطامحات للوصول إلى مواقع صنع القرار "المجلس الوطني، والبلدي" غارقات في مشروعات قص الأشرطة وافتتاح المعارض وإلقاء الكلمات، لا رأي لهن ولا حوارات تدور بينهن حول سياسات الخصخصة وضوابطها ودور الدولة بشأنها وما له علاقة بقطاعي الصحة والتعليم، ولا رؤى لتعديل قانون الانتخابات، كلها شئون لازمة وشرطية لمن يرفعن شعار التمكين السياسي للمرأة بغرض إيصالها إلى مواقع صنع القرار، فأين أصواتهن؟! عند دمج المؤشرات والدلالات المشار إليها، وإعادة صوغها باختصار، سنحصل على نتيجة مفادها: إنه لن تتم عملية الإصلاح والتحول الديمقراطي إلا إذا جسد النظام "شعاراته" إلى واقع فعلي يأخذ مظاهره على البنى والهياكل. بمعنى إيجاد السبل والآليات لتحقيق الشراكة المجتمعية والتشبيك بهدف تمكين المرأة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا. كل ذلك، لا تنتجه قاعات ورش العمل أو صالونات النخبة، أو ترديد شعارات جوفاء فارغة المضمون، بل بالنزول إلى الشوارع وحل مشكلات العامة لاسيما النسا
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1110 - الإثنين 19 سبتمبر 2005م الموافق 15 شعبان 1426هـ