الفرق بين التفكير العربي والتفكير الأميركي أن الأخير ينظر إلى الغابة وينظر الأول إلى الشجرة، والفرق واضح بين النظرتين، إحداهما طويلة المدى متشعبة المداخل الربح فيها مؤجل ولكنه مؤكد، والثانية قصيرة المدى، الربح فيها مشكوك فيه تنحو نحو المغامرة. تبادر إلى ذهني هذا النوع من المقارنة بعد قراءة موضوعين نشرا هذا الشهر، أحدهما نشر في مجلة "الشئون القومية"، كتبه السفير الأميركي الحالي في بغداد زلماي خليل زاد، وكان سفيرا سابقا في أفغانستان. كان عنوان المقال "بناء الشعوب أو الأوطان"، والثاني نشرته مجلة "الفورن افيرز" "مجلة الشئون الخارجية" الأميركية ذات التأثير الواسع في أوساط متخذي القرار في الولايات المتحدة، بقلم رتشارد هس، الذي كان يرأس لجنة التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية بين العامين 2001 و،2003 ومن بعض أعماله الأخرى اليوم أنه رئيس مجلس الشئون الخارجية وهي مؤسسة عقول، ويصدر المجلة، والمقال بعنوان "تغيير الأنظمة وحدودها". بين "بناء الأوطان" و"تغيير الأنظمة" تنتظم الاستراتيجية الأميركية تجاه الشعوب والأنظمة في العالم أجمع، ومن بينها طبعا منطقتنا العربية. الفكرة الرئيسية في كلا المقالين أن هناك في العالم أنظمة لا تتوافق مع ما تراه الولايات المتحدة من تنظيم "اقتصادي، اجتماعي"، وهي في النهاية تشكل تهديدا ما، أما الآن أو في المستقبل على مصالح الولايات المتحدة. على رأس هذه الأنظمة "دول محور الشر"، التي أصبحت معروفة في أدبيات السياسة الأميركية، ولكن ليست محصورة عليها. فدرجات التهديد ضد الولايات المتحدة متدرجة، بعضها حاد ومباشر "مثل دول الشر" التي أصبحت اثنتين بعد شطب العراق منها، وبعضها كامن التهديد كالدول التي تناصر الإرهاب وتدعمه "هنا مفهوم الإرهاب واسع بما فيه حركات التحرر الوطني غير المنضوية في الجهود السلمية"، والسؤال: ماذا يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة تجاه مثل هذه الدول؟ ريتشارد هس يقترح طريقين مجربين وناجحين لمواجهة هذا التهديد، الأول هو تغيير الأنظمة بالقوة، والثاني هو الاحتواء أو التغيير المتدرج من الداخل، ولا غير هذين الطريقين طريق سالك للتخلص من هكذا أنظمة. سياسة التخلص من الأنظمة المعادية للولايات المتحدة بالقوة، كما يناقش هس، ليس بجديدة، فالتخلص من النظام النازي في ألمانيا الهتلرية، لم يكن بغير هذا، أي أنه لم يكن محاولة انتصار على عدو، ولكن الحرب استمرت حتى بعد أن تبين الانتصار الذي لاشك فيه للوصول إلى انهاء النظام نفسه، وكذلك كانت السياسة تجاه اليابان الإمبراطورية، التي لم تكن لها قدرة على القيام بأي نشاط عسكري بعد ضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي بالقوة النووية الجديدة وقتها، ولكن الحرب استمرت من أجل تغيير النظام القائم. ذلك حدث في القرن الماضي الذي واجهت فيه الولايات المتحدة ثلاثة تهديدات كبرى وخطيرة "حربان عالميتان" وحرب باردة مع الاتحاد السوفياتي، الذي اتبعت معه الطريقة الثانية، وهي طريقة الاحتواء ودفع النظام لإصلاح نفسه، عن طريق الضغط من الخارج. كل التحديات الثلاثة، انتصرت فيها الولايات المتحدة في آخر الأمر. لم يكن تغيير الأنظمة في واقع الأمر مقتصرا على الدول المحاربة للولايات المتحدة، ولكنها حاولت وفشلت مع مانويل نوريجا في بناما ،1989 وفرح عيديد في الصومال ،1993 ولكن الاثنين لم يبقيا طويلا، فقد زالا بعد وقت قصير، فقط الذي كسر المعادلة حتى الآن هو فيديل كاسترو في كوبا. الدول القائمة من أجل تغيير النظام أو احتوائه لتغيير نفسه من الداخل معروفة، على رأسها كوريا الشمالية، وإيران، تأتي بعدهما سورية. الأولى والثانية بسبب محاولة حصولهما، أو حصولهما فعلا على الأسلحة النووية، والثالثة بسبب الخلاف الجذري بشأن السياسية الإقليمية. ما يهم معرفته هو أن الضغط والعزل الدبلوماسي الأميركي للدول "المارقة" هو امتداد طبيعي في ظل الاستراتيجية الحالية للعمل العسكري، وهو الطريق الثاني الذي اتبعته الولايات المتحدة من أجل استنزاف الاتحاد السوفياتي، الذي كانت تتبع معه سياسة مركبة، هي التعاون في المصالح المشتركة، واستمرار الضغط في غيرها. وإذا كان التعاون ضرورة أفرزتها الوقائع في فترة من الفترات إبان الحرب الباردة، بسبب قوة ونفوذ الاتحاد السوفياتي، فإن العزل الشامل هو المتوقع مع دول لا تحظى بما كان للاتحاد السوفياتي من قوة ونفوذ. النجاح في العزل أسهل وأسرع تجاه الدول الصغيرة والمتوسطة، ليبيا هي المثال الذي يعطى في السنوات الأخيرة، فبعد العزل الاقتصادي والسياسي اضطرت إلى هجر سياستها القديمة واتباع سياسة جديدة، ولكنها لم تكمل المشوار بعد. والمشوار في نظر راسمي السياسة الأميركية هو نظام سوق اقتصادية مفتوحة، انفتاح داخلي، إطلاق قوى المجتمع المدني، والامتناع عن تهيئة "جو للإرهاب" من بين شروط أخرى. التأكيد على أولوية "الإقناع" بالتغيير من الداخل في السياسية الأميركية وتنفيذ سياسة الاحتواء حتى يتم التغيير، سببه هو أن تغيير الأنظمة بالقوة مكلف، ويحتاج إلى قناعة تصل إلى درجة مئة في المئة بالتهديد، وأن لا بديل لاستخدام القوة، ثم انه يحتاج فوق ذلك إلى توافق دولي ليس سهلا أو يسيرا. أما سياسة الاحتواء ومحاولة التغيير من الداخل، فهو الذي يسميه خليل زاد "بناء الأوطان"، وهو بناء أيضا ليس سهلا أو يسيرا، فالتجربة الألمانية واليابانية وأخيرا العراقية والأفغانية، تبين أنها مكلفة في المال والرجال، ولكنها ضرورة لابد منها، وإكمالها حتى النهاية ضرورة استراتيجية أميركية. الاحتياج إلى الوقت في مثل الأمر مهم، وكذلك إلى الدعم الدولي، ولكن الأهم هو بناء مؤسسات مكفولة من قوى داخلية لها مصلحة في بقائها، وهذا ما يحدث في أفغانستان والعراق. الاستنتاج هنا واضح وجلي، هو أن الولايات المتحدة لن تألو جهدا في متابعة تحقيق الأهداف التي تتوقع أن تنتصر فيها. اللافت للأمر موضوعان يخصان منطقتنا، وهما استخدام "إسرائيل"، دافعا للتغيير من الداخل، فقد ضرب ريتشارد هس مثال "إسرائيل" مرتين فيما سماه "الضربة الاستباقية"، الأولى عندما قامت بضرب القوات المصرية العام ،1967 والثانية عندما قامت بضرب المنشآت النووية العراقية العام .1982 أما الموضوع الثاني فهو استخدام الوسائط الثلاث الإذاعية والتلفزيونية والصحف والمجلات لبناء قناعة في داخل المجتمع المراد "احتواؤه". هاتان الوسيلتان: "إسرائيل" ووسائط الإعلام، تقدمتا تقنيا، وفاقتا ما كان لهما من تأثير قبل عشرين عاما أو يزيد. "إسرائيل" تتقدم في الجسم المسلم، باكستان أخيرا وغيرها من الدول، بعد أن أصبحت لها سفارات في عواصم عربية ومكاتب تمثيل، وأصبح الحديث السياسي بينها وبين الفلسطينيين يوميا تقريبا. أما وسائل الإعلام فلم يعد لها ضابط أو رابط، بعد اتساع رقعة الإنترنت. بعد هذا مازال بعضنا يتحدث عن الشجرة، طولها وعرضها، وقدرتها على "المقاومة" في العراق أو في غيرها، والغابة مستمرة في الاتساع والتشعب. أبعد ذلك، يوجد تفكير عربي استراتيجي غير ذلك الذي يتأمل الشجرة معجبا بها؟ أفيدونا
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1110 - الإثنين 19 سبتمبر 2005م الموافق 15 شعبان 1426هـ