العدد 1109 - الأحد 18 سبتمبر 2005م الموافق 14 شعبان 1426هـ

"تذكار سولفرينو"

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

يوم بعد آخر يرتفع مستوى الأمل والتفاؤل في نفسي من أفواج المبتعثين والمبتعثات من أبناء وطني الحبيب إلى الخارج، لا لأنهم سيدرسون ويتعلمون ويفيدون مجتمعهم حين يعودون إليه وهم مسلحون بسلاح السمو والرفعة فحسب، بل لأني أرى أنهم يدركون تماما أنهم رسل يحملون معهم صورة مصغرة لما عليه مجتمعاتهم من سلوك وتصرف وإنسانية. وإني لأدعو الله دائما ألا يعودوا حتى يتركوا بصماتهم الإنسانية واضحة، يحكيها الإنسان الذي زاملوه، والمجتمع الذي خالطوه، والذكريات التي خلفوها سيرة وحكاية طيبة لهم في تلك البلدان التي أكرمتهم بالعلم وزودتهم بالمعرفة. في الأسبوع الماضي كتبت رسالة إلى المبتعثين وكان جوهرها أن يتعاملوا مع الإنسان كإنسان بعيدا عن الطوارئ التي تطرأ عليه من لون ديني أو طعم فكري أو رائحة تشي بها تصوراته وآراؤه، حتى يتمكنوا من حبه من دون حواجز ومن ثم التسلل إلى قلبه وعقله. وفي هذا المقال أسعى لاختصار قصة رجل لاتزال بصماته تخدم الإنسانية جمعاء، وإن كانت السياسة الآن تحاول التلاعب بما تركه هذا الرجل من لمسات إنسانية طيبة، ولذلك قصة أخرى. اختصر قصته بضغط واختزال شديدين، وأنا شديد الإعجاب بإنسانيته، من دون أن أنظر إلى أي بعد آخر سوى هذا البعد الحضاري والإنساني في حياة هذا الرجل، وإني لأتمنى أن يعود الطلبة المبتعثون إلى كتابه "تذكار سولفرينو" ليقتربوا كثيرا مما أحدثه هذا الرجل من ضجة وخدمة للبشرية بحجم حبه للإنسان، وليستفيدوا من الكتاب في جوانب أخرى تعزز حب الإنسان والدفاع عنه. صاحب الكتاب وبطل القصة هو هنري دونان "1828 - 1910"، تربى في عائلة ثرية، فقد كان والده رجل أعمال ناجح، وصاحب ثروة واسعة، ومكانة بارزة، وعندما شب دونان استفاد كثيرا من وضع عائلته، ومن مزاياها الاقتصادية والاجتماعية، ومع نمو مكانته كشاب كانت تنمو معه الكثير من القناعات الدينية، والمبادئ الأخلاقية العالية. بدأ دونان شق مستقبله في التجارة والأعمال المالية ذات المردود الربحي العالي، وفي إحدى سفرات هذا الثري من سويسرا بلده الأصل ومسقط رأسه إلى إيطاليا لمتابعة أعماله التجارية، صادف يوم وصوله اليوم الـ 24 من شهر يونيو/ حزيران العام ،1859 وهو التاريخ الذي وقعت فيه معركة "سولفرينو"، المعركة التي سمى الكتاب باسمها. هنا شاهد هذا الضيف الغريب الثري آلاف المصابين والجرحى الذين غصت بهم المدينة، وامتلأت بهم البيوت التي هيئت بشكل طارئ لاستقبالهم، وأدرك أن الخدمات الطبية لا تكفي لمساعدتهم وعلاجهم، كما لمس ميدانيا أنه لا توجد طواقم أهلية مدربة على فعل ذلك في مثل هذه الظروف الطارئة. لم يفكر هذا الغريب في الرجوع إلى بلده، ولا في الهروب بأمواله، ولم يفكر في جنسيته، بل نزل إلى الشوارع يساعد الجرحى ويطبب المرضى بما تمكن من معرفة، ويخفف من آلامهم، ويبذل جهده ووقته وماله في خدمتهم. وحين عاد إلى بلده حمل معه كل تلك الصور التي حفرت أخاديدها في ذاكرته، واصطحب بين جنبيه كل الآلام والأنات التي استمرت تهز أعماقه هزت، وتقض مضجعه، وبدأت الانعطافة الكبرى في حياته، فقد كان التفكير يمتد به ليالي طويلة، ويستنزف منه طاقة هائلة، وقد استمرت حاله على هذا المنوال ثلاث سنوات، كان الفزع فيها رفيقه كلما قفزت إلى مخيلته تلك الصور الدامية. وقاده تأمله إلى ضرورة إيجاد وسيلة يمكن بها منع مثل تلك المعاناة أو على الأقل التخفيف منها في الحروب القادمة. ومنذ عودته إلى وطنه كما يقول في كتابه، كان هذا الهاجس هو همه الأول الذي طغى على تجارته حتى أفلس بعد أن وضع كل أمواله في خدمة الإنسان والتخفيف من آلامه في الحروب. ولكي يتسنى له فعل ذلك بشكل متقن تواصل مع أهل الخير والكرم ممن يثقون به لتشكيل لجان تطوعية مدربة تقوم بإغاثة ومساعدة ضحايا الحروب، ثم عمل بكل جد ومثابرة على إصدار كتابه "تذكار سولفرينو" العام ،1862 والذي وثق فيه المعاناة التي شاهدها وعايش فصولها، وضمنه دعوة للعمل على إنشاء جمعيات تطوعية لإغاثة ضحايا الحروب، ووضع اتفاقية دولية لتقنين قيامها، والتعاهد من قبل الدول لتقديم رعاية إنسانية أفضل للجرحى، وقد حقق كتابه هدفه بأسرع ما يكون. فبفضل جهوده وتنقله بين العواصم الأوروبية وطلبه التحدث إلى أصحاب القرار، أنصتت العواصم لأفكاره، واستمعت الدول لآرائه، وتسابق الناس إلى دعمه وأعطيت إشارة البدء وتشكلت على يديه المنظمة الدولية لإغاثة الجرحى، وهي الأساس الذي ساعد على قيام اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تعود إلى مظلتها كل لجان الصليب الأحمر المنتشرة في مختلف دول العالم. في السنوات العشرين الأخيرة من عمره، عاش دونان حياة صعبة، فالمبالغ التي عنده لا تكفي لاحتياجاته، فكانت المساعدات تصله من بعض أقاربه وأصدقائه القادرين على تقديم بعض المال القليل له. وقضى بقية حياته ما يقرب من 18 عاما في المستشفى المحلي في منطقته، وحين أرادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تكريمه كان دونان أضعف من أن يقوم بالرحلة الطويلة إلى "كرستينا" لاستلام جائزته ووسامه، فأرسلا إليه في موطنه "هايدن"، ومعهما رسالة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقول: "ليس هناك من يستحق هذا الشرف أكثر منك، فأنت الذي أسست منذ أربعين سنة مضت المنظمة الدولية لإغاثة الجرحى، ومن دونك ربما لم يكن من الممكن أن يتحقق ذلك الإنجاز الإنساني الأعظم، الصليب الأحمر". أيها المبتعثون يكفينا أن تتركوا بصماتكم بسلوككم الحسن وأخلاقكم الكريمة، وحبكم للإنسان، فذلك أفضل ما يقدم لمجتمعاتكم في هذا الزمن الموحش.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1109 - الأحد 18 سبتمبر 2005م الموافق 14 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً