سجل إعصار "كاترينا" الذي ضرب ثلاث ولايات جنوبية في أميركا مجموعة نقاط ضد الرئيس جورج بوش. فالرئيس الآن لم يعد ذاك الذي ظهر أمام العالم على انقاض البرجين في نيويورك "مركز التجارة العالمي" مهددا ومتعودا. فالإعصار الطبيعي حقق بعض أغراضه السياسية، إذ نجح إلى حد ما في كبح جماح "الثور" الهائج وعقلن خطابه الايديولوجي وعدل بعض زواياه الحادة والمؤذية. خطاب الرئيس الأميركي في ذكرى الستين لتأسيس الأمم المتحدة تضمن في صفحاته ذاك التعارض بين منطق القوة ووقائع الضعف. إلا أن الكلمات لم تخرج عن تلك التوجهات العريضة للسياسة الخارجية. فالرئيس القوي في الخارج والمنكوب في الداخل حاول قدر الإمكان انتقاء كلماته والتخفيف من تلك الالفاظ النارية التي تصب في سياق الشحن الايديولوجي والتحشيد الانتخابي وراء الحزب الجمهوري. ولكنه أيضا لم ينس التذكير بإمكاناته واستعداده لاستخدام قدراته "التدخلية" وقت الحاجة. تهذيب كلمات الخطاب لا يعني بالضرورة أن السياسة الأميركية أصبحت مهذبة. وكذلك الابتعاد عن أسلوب "التلقين" و"الاملاء" لا يشير إلى وجود استبدال لمنطق الاستراتيجية العامة التي اتسمت بالهجومية العسكرية بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول .2001 تهذيب الكلمات لا يعني تهذيب الأخلاق السياسية ولا يشير إلى بدء الإدارة الأميركية في الانتقال من تكتيك الهجوم إلى تكتيك الدفاع. فبين لحظة الانتباه إلى ذاك الفائض في الإرشادات والمواعظ والتوجيهات لدول العالم وبين إعادة النظر في تكتيكات الاستراتيجية العامة هناك مساحة زمنية ليست بسيطة، وربما تحمل في طياتها سياسة غير متوقعة من إدارة قلقة ومتوترة. حتى الآن تبدو واشنطن غير مطمئنة. وهي تتوقع حصول عوارض داخلية ونكسات خارجية تحط من هيبتها الدولية. وبسبب القلق تظهر أحيانا تشنجات تعبر عن نفسها بتصريحات متوترة تريد كسر العزلة الدولية من جهة وأخذ ضمانات لموقعها ودورها الطليعي في إدارة الشئون العالمية. هذا النوع من الاضطراب السياسي/ النفسي تمر به عادة الدول الكبرى وتحديدا تلك التي تتبوأ الدرجة الأولى في سلم الترتيب. فالأول دائما يخاف من التراجع أو السقوط إلى الدرجة الثانية أو الثالثة في الترتيب العام ولذلك يعيش هاجس المنافسة والمزاحمة ويتخوف من أي طرف أو جهة تحاول كسب المعركة واحتلال مكانه. بينما الثاني والثالث والرابع يعيش حالات القلق ولكنه لا يجد نفسه في موقع متوتر يتطلب منه المبالغة في إظهار قوته أو استنزافها في معارك جانبية مادام مؤشر النمو عنده يتقدم ويتطور ويصعد إلى الأعلى. مشكلة أميركا السياسية/ النفسية تبدأ من موقعها. فالموقع يورطها في سلوكيات مضطربة تريد اثبات هويتها وقدراتها وإمكاناتها ولكنها تكتشف دائما أنها تعاني من ثغرات داخلية تعطل عليها حرية الحركة. فالعالم أكبر من أميركا. والمشكلات التي تعصف بالدول العربية والإسلامية مثلا ليست سهلة وبسيطة حتى تعالج ببعض الخطب والكلمات والالفاظ التي دأب بوش على إرسالها بلغة "التلقين" و"الاملاء". إعصار "كاترينا" كشف الكثير من الفجوات في البناء الاجتماعي والعلاقات الأهلية الأميركية، ووجه رسالة داخلية إلى إدارة لخصت مشكلات العالم بالصراع ضد دول العالم الإسلامي وتحت شعارات ساذجة تتحدث عن "الحسد" من نمط الحياة الأميركية و"الغيرة" من نجاحاته الصحية والتربوية والاجتماعية والأمنية. المسألة إذا بدأت تتجه نحو قراءة أكثر تواضعا إلا أن هذه القراءة المهذبة لا تعني أن السياسة تغيرت أو أن بوش تخلى عن استراتيجيته الهجومية. فالتهذيب ليس تراجعا وانما هو محاولة التعود على فترة هدوء. وبعد الهدوء المؤقت لا تعرف اتجاهات الريح
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1108 - السبت 17 سبتمبر 2005م الموافق 13 شعبان 1426هـ