تسعى ألمانيا إلى الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. وتعتزم استغلال إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة وخصوصا إصلاح مجلس الأمن التابع لها، للانضمام لما يعرف إلى مجلس الأمن الدولي مثل اليابان والهند والبرازيل، ستكون هناك نتائج لعملية توسيع العضوية، ومنها ما له أهمية مباشرة للقضايا العربية وخصوصا النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. لقد اعتاد العرب على "الفيتو" الأميركي كلما كان مجلس الأمن بصدد الموافقة على قرار يدين جرائم "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني. كما يلاحظ أن ألمانيا ترفض التصويت في الاتحاد الأوروبي على قرارات تدين "إسرائيل". وسعت في عهد المستشار السابق هيلموت كول أيضا إلى أن يدين الأوروبيون ما تصفه وزارة الخارجية الألمانية بجرائم الفلسطينيين ضد "إسرائيل"، وغالبا كانت ألمانيا وحيدة في موقفها المنحاز هذا. وإذا كتب لألمانيا الفوز بمقعد دائم في نادي الكبار، فستحصل "إسرائيل" على حليف جديد مهم في مجلس الأمن ولا سيما أن الموقف الحالي للخارجية الألمانية يشكل حافزا لـ "إسرائيل" كي تستمر في ممارساتها التعسفية ضد الفلسطينيين، وخصوصا أن وزير الخارجية يوشكا فيشر يحمل الفلسطينيين، ويا للغرابة، ليس الإسرائيليين، مسئولية استمرار النزاع بسبب إشعالهم نار الانتفاضة الثانية. حين سعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إدانة جرائم "إسرائيل" التي لا يمكن مقارنتها بالعنف الفلسطيني، امتنعت ألمانيا مرة أخرى عن التصويت عملا بموقف ظهر بصورة جلية بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة. فعقب الهجوم أكد المستشار غيرهارد شرودر أن الإرهابيين يستهدفون تدمير مصالح الغرب ومبادئه. وهو الموقف الذي أعلنه الرئيس جورج بوش وعدد من قادة دول بالاتحاد الأوروبي. ولم يشر أحد إلى حقيقة أن العنف يولد العنف، وتم عمدا تجنب الإشارة إلى حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم. وقامت ألمانيا على إثر هجمات سبتمبر بتزويد "إسرائيل" بمحركات للدبابات على رغم أن "إسرائيل" كانت في هذه الفترة تدك مناطق فلسطينية وتنشر فيها القتل والدمار بحجة مكافحة الإرهاب. كشف فيشر عن موقفه المنحاز لـ "إسرائيل" في كلمة ألقاها أمام البرلمان قبل سنوات زعم فيها أن أحد أهداف الإسلاميين تدمير "إسرائيل"، وأن لها الحق في البقاء، وينبغي علينا نحن الألمان استخدام جميع السبل لمنع تعرضها للدمار. ولم يشر فيشر بكلمة واحدة إلى سبب معاداة الإسلاميين لـ "إسرائيل" ولا إلى جرائمها ضد المدنيين الفلسطينيين. ولايزال فيشر يلتزم الصمت حيال تلك الجرائم، ويكتفي بالإشارة إلى ما يسميه مصالح مشروعة للجانب الفلسطيني. يرى البروفيسور الأميركي كينيث ليفان "70 سنة" الذي يعتبر من ابرز منتقدي السياسة الألمانية تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي أن مزاعم فيشر بأن "إسرائيل" مستهدفة من قبل الإسلاميين وفي الوقت نفسه يطالب بحقها في البقاء، ينشر الشعور بأن "إسرائيل" التي اغتصبت أرض وحقوق الشعب الفلسطيني في موقع الضحية وأن الأخطار تحدق بها فعلا. ويضيف ليفان الذي عمل مستشارا قانونيا لسياسيين أميركيين: "يجب عدم تجاهل سبب شعور "إسرائيل" بالخطر نتيجة اغتصابها أراضي وحقوقا عربية وطالما أنها ترفض التخلي عن هذه الحقوق". ويتساءل ليفان الذي حارب كجندي في ألمانيا وأصيب بجروح خطيرة في معركة ضد النازيين، عن مستقبل دولة عسكرية في قلب العالم العربي ليست قادرة على البقاء من دون مساعدات أميركية، وقال: "نسمع منذ سنوات أن "إسرائيل" تعيش في خطر داهم على رغم أنها هي التي تعبث بأمن العرب وتلحق الدمار بمخيمات اللاجئين في لبنان وبالمناطق الفلسطينية". وفي مقال نشر باسمه في مايو/ أيار 2002 تحدث فيشر عن حق الفلسطينيين بدولة خاصة بهمن دون إشارة إلى حدود الدولة وما إذا ينبغي على "إسرائيل" أولا الانسحاب من الأراضي التي احتلتها العام .1967 إنه الموقف نفسه الذي أعلنه قبله رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون والرئيس الأميركي بوش جونيور كما أن فيشر تجاهل هنا الطلب المتكرر للاتحاد الأوروبي بانسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي التي احتلتها خلال حرب الأيام الستة. نقل فيشر في مقاله وجهة نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك من أن "إسرائيل" عرضت مشروع دولة على ياسر عرفات في قمة كامب ديفيد، لكن الانتفاضة الثانية أجهضت المشروع. ومضى يقول من دون الإشارة إلى خلفية الخلاف: منذ ذلك الوقت تكافح "إسرائيل" من أجل البقاء. صدر المقال في وقت كانت فيه طائرات حربية إسرائيلية من طراز فانتوم 16 ودبابات تدك مناطق الفلسطينيين وخصوصا مخيمات اللاجئين من دون أن تتعرض لمقاومة تستحق الذكر. اختتم فيشر مقاله ببادرة تعاطف أخرى تجاه "إسرائيل" حين كتب: في ضوء تجربتهم نتيجة فشل مفاوضات كامب ديفيد يشعر الإسرائيليون بالقلق لأن القادة الفلسطينيين يريدون الحصول على أكثر من حل الدولتين، وهم يخشون أن تصر منظمة التحرير الفلسطينية على عودة لاجئي 48 بحيث يصبح الوجود اليهودي مهددا والتمهيد لقيام دولة غالبية سكانها من العرب. يقول ليفان إن فيشر لم يهتم بالكشف عن الأسباب الحقيقية لفشل مفاوضات كامب ديفيد وتبنى حجة باراك بأن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود نتيجة إصرار الجانب الفلسطيني على عودة أكبر عدد ممكن من اللاجئين بحيث شعر باراك بالخوف من أن يصبح اليهود أقلية وهذا أكبر خطر يهدد الدولة العبرية. إنه الموقف الذي تبناه باراك كي يحصل على تعاطف الغرب ويتنصل من مسئولية فشل المفاوضات. وهو الموقف الذي يتناقض مع موقف حزب الخضر الألماني الداعي لقيام مجتمع متعدد الثقافات في ألمانيا، فلماذا يعارض قيام مجتمع عربي إسرائيلي في فلسطين؟ حين صعدت "إسرائيل" حملتها العسكرية ضد الفلسطينيين العام 2002 علت أصوات في الاتحاد الأوروبي مطالبة بفرض عقوبات عليها. لكن فيشر وزميله البريطاني جاك سترو رفضا هذه الدعوة، كما رفضا بحث أية إجراءات تلحق ضررا بالدولة العبرية. وحذر فيشر من أن تقود الدعوة إلى تعزيز الرأي الإسرائيلي بأن الاتحاد الأوروبي منحاز للعرب. وتطرق إلى نقطة أساسية بالنسبة إلى ألمانيا حين قال أن بلاده تتحمل مسئولية خاصة تجاه الدولة اليهودية، وكرر: ما يسعد الإسرائيليين سماعه أن هذه المسئولية ستظل قائمة. معنى هذا أن ألمانيا لا يمكنها إدانة جرائم "إسرائيل"، وهذا مخالف للقانون الدولي كما لا يمكنها المطالبة بمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم وهذا مخالف لحقوق الإنسان، ويجعل ألمانيا بصورة مباشرة أو غير مباشرة عرضة للتهمة بأنها مسئولة عن معاناة الشعب الفلسطيني. في مقابلة أجرتها معه مجلة "دير شبيغل" في العام 2003 صعد فيشر حملته على العرب وقال: "منذ تأسيس إسرائيل يحمل العالم العربي الإسلامي تبعية وفشل تقدمه لوجود الدولة العبرية وأقول هنا بصراحة ان إسرائيل لا تتحمل مسئولية التخلف العربي الإسلامي بل القوى التي تمارس الإرهاب". وأضاف فيشر: "تشكل إسرائيل تحديا لجيرانها العرب، لكنه تحد إيجابي. وهي من خلال انفتاح مجتمعها وديناميكية اقتصادها وقدرتها التكنولوجية ليست مسئولة عن عدم تحقق السلام حتى اليوم وبالتالي ليست مسئولة أيضا عن الوضع المعيشي المزري للفلسطينيين"! وأضاف انه لا يعتقد أن هناك ما يهدد "إسرائيل" استراتيجيا، فهي قوية جدا، لكن تحقيق السلام سيعزز أمنها وحقها في البقاء بصورة أكبر.
جوائز إسرائيلية
في مايو 2002 حصل فيشر على الدكتوراه الفخرية من جامعة حيفا، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المذكور حصل على جائزة تحمل اسم هاينز جالينسكي الرئيس السابق للجالية اليهودية في ألمانيا اعترافا بدوره في عملية السلام كما ذكر. وحصل على ميدالية بوبر روزينزفايغ اليهودية. كما حصل في مايو 2005 على جائزة ليو بيك التي تقدمها الجالية اليهودية في ألمانيا. في كلمته بهذه المناسبة قال فيشر: ان "إسرائيل" هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ولضمان حقها في البقاء فإن تفوقها العسكري مهم جدا. أعرب فيشر أيضا عن تعاطفه مع اليهود في ألمانيا وقال انه لا يتصور المجتمع الألماني من دون دور فعال لليهود وخصوصا في العلوم والفنون والاقتصاد. لم يتبن وزير خارجية ألماني سابق موقفا منحازا لـ "إسرائيل" مثل فيشر. ولكن لم ينتقد حزب ألماني هذا الموقف. ألمانيا ثاني أكبر دولة بعد الولايات المتحدة تمول "إسرائيل" وتزودها بالسلاح والمال والدعم السياسي. لا الحكومات الألمانية التي تعاقبت على السلطة ولا السياسيون ولا وسائل الإعلام الألمانية يقرون أن سياسة ألمانيا المنحازة لـ "إسرائيل" من ضمن أسباب الوضع المزري للفلسطينيين. وهؤلاء يشيرون في كل مناسبة عن مسئولية ألمانيا عن ضمان وجود الدولة العبرية.
العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ