إن الخيارات السياسية لابد أن تكتمل في بوتقة متصلة ومتناسقة من الأفعال السياسية، لذلك، أعتقد أن أي خيار سياسي تتخذه أي منظومة سياسية هو بالضرورة مكون من سلسلة متوافقة من الأفعال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تتصل لتكون مجمل بيان توضيحي لخيارها السياسي بشكل حاسم وواضح، بمعنى أن البحرين حين أقدمت على خيارها الإصلاحي كانت ومازالت مطالبة بأن تكون بيئتها السياسية منسجمة في مجملها العام، لا يجوز لنا أن نلفق ونفبرك في السياسي ما لا يقبل التمازج والفهم، وما لا يخضع لقوانين الديناميكية السياسية الحديثة. هذا ما يقرأ اليوم من مجمل تقييم المرحلة "حكوميا". الدولة حاولت أن تصنع صورة سياسية جديدة تواكب المشروع الإصلاحي ولتتماشى مع مستجدات المرحلة السياسية، لم تعد الدولة أحادية القرار والفعل والتخطيط والتنظيم، ثمة شركاء جدد في المطبخ السياسي البحريني، إلا أن الكثير من أجهزة الدولة مازالت عاجزة عن فهم هذه الشراكة أو احترامها أو على الأقل جعلها ضمن الأرقام التي يجب أن تراعى في آلة الحساب السياسية.
"التشريعي" بغرفتيه والجمعيات السياسية
مازالت المنظومة التشريعية في الهرم السياسي البحريني عاجزة عن التموضع السياسي المناسب، والأسباب متعددة، بين اتهام الجمعيات المقاطعة - ذات الثقل السياسي - بأنها كانت سبب ضعف هذا الجهاز وجعله أقل من الطموحات، وبين التهمة المقابلة من جانب الجمعيات السياسية للبرلمان بأنه برلمان أقل من الطموحات، وأنه لا يحقق لها ما ترنو له من مشاركة سياسية فاعلة. كإعلاميين، لنا أن نصدق طرفا على الآخر، ولنا أن نرفض الادعاءين جملة واحدة، ولعلي اميل إلى الخيار الثاني. لم يكن المجلس قادرا على المشاركة السياسية المأمولة لعدة أسباب وليس لسبب واحد ألصقه بطرف دون الآخر. كان لغياب تلك الأسماء "الشبحية" عن غرفة البرلمان المنتخب تأثير مهم في رواج الاستهانة من قبل المؤسسة التنفيذية بقدرات المجلس وصولا لتطلعاته التي كانت محل "استخفاف"! الأعضاء مورست عليهم من قبل الحكومة "صدمة القوانين المتسارعة"، ولم تكن أية كتلة من الكتل البرلمانية قادرة على قراءة السلوك الحكومي داخل المجلس بشكل جيد، لتقوم بإيقاف هذا النزيف التشريعي. كما كان لمجمل أدوات الضبط الداخلية "القانون الداخلي" للمجلس بالإضافة إلى التسريبات المثيرة التي ذهبت إلى الادعاء بأن قرار "المجلس المعين" ليس بيد أعضائه الكثير من التأثيرات السلبية، هذه التأثيرات السلبية مجملة كانت ما استقوت بها منظومة المقاطعة في تأكيد رجاحة خيارها السياسي بالمقاطعة للانتخابات. للأسف، كانت الحكومة مشاركة بامتياز في رواج هذه الرؤية وتدعيمها، سواء عبر النهايات الغريبة لأكثر القضايا المثارة "حساسية"، أو عبر تلك التغييرات البسيطة والهامشية التي أحس بها المواطن البحريني من مجمل إنتاجات المجلس حتى اليوم. لم تحرص الحكومة على أن يلمس المواطن البحريني أهمية سلطته التشريعية وقدرتها على تحقيق مطالبه وطموحاته.
"المواطن" آخر الاهتمامات
الحكومة لم تدرك أنها ضيعت فرصة تاريخية لخرق صفوف الجمعيات المقاطعة، وذلك عبر تفعيلها الملفات الشائكة في المجتمع البحريني، والتي يهتم بها المواطن العادي ويعتقد أن حلحلتها هي دلالة صدق أي من الفاعلين السياسيين، لو أن الحكومة استطاعت بمشاركة النواب أن تحاسب من سرق المال العام أو ضيعه. ولو أنها حسمت قليلا من القضايا المعطلة كالبطالة والإسكان وتردي الخدمات الصحية، لكانت جرت الشارع الوطني لمحاسبة جمعياته السياسية بنفسه، عوض أن تلعب هذا الدور بنفسها، فتكون متهمة بمحاربة الحريات والتعدديات السياسية، ولكانت خيارات المرحلة محسومة للحكومة أكثر مما كانت تأمل أو تحتاج. "المواطن" كان ببساطة هو ضحية المرحلة، لم يكن المواطن باهتماماته واحتياجاته وتطلعاته ضمن أجندة أحد من السلطة السياسية والجمعيات أهملت فرصة الحصول على بعض الاستحقاقات في البرلمان، ما أدى إلى ظهور بعض السلوكيات السياسية الخطرة من قبل بعض الأطراف السياسية داخل منظومة هذه الجمعيات أو خارجها، والحكومة لم تكن جادة في مماثلة الانفتاح السياسي على صعيد تجربتها البرلمانية الوليدة أو على صعيد خدماتها الإسكانية والصحية والتعليمية. وبما أن المواطن لم يلمس من يهتم به وبقضاياه، فهو اليوم يعيش حالا من القلق والتردد... يصدق؟ من ويكذب من؟ هل كان البرلمان أقل من الطموحات؟ لكنه تحصل على زيادة في الرواتب - كمقايضة لتمرير الموازنة - ولو كان النواب أكثر ضراوة لكانت الزيادة أكثر إقناعا، كذلك تحصل على "المكافأة السنوية" ولو كانت متأخرة. من جهة أخرى، هو راقب عن كثب كيفية إنهاء الكثير من ملفات الفساد المالي من دون معاقبة أحد، أو حتى توجيه اللوم لمن تسبب بذلك، ولعله راقب بحسرة تكريم بعضهم.
لم ينجح أحد
"لم ينجح أحد"... لم تنجح الحكومة في تسويق تجربتها البرلمانية، ولم تنجح المعارضة في تسقيط التجربة البرلمانية، لذلك لا يمكن أن نهنئ أحد الطرفين دون الآخر. لم تستطع أي من القوى السياسية الفاعلة أن تمتلك الشارع البحريني، المواطن مازال متعلقا بالكثير من الآمال، إلا أن أي طرف من الأطراف لم يعد قادرا على إنتاج خطاب "مقنع". الصحافة كسلطة رابعة لعبت دورها بشكل جيد، لا أقول إنها نجحت، فالنتيجة هي "لم ينجح أحد"، إلا أن الصحافة البحرينية لعبت دورها بشكل جيد، الجميع حصل على مساحته الإعلامية بشكل متعادل، سواء في صحف الخطاب الحكومي التقليدية أو الصحف المتوازنة نوعا ما، إلا أن الجميع لم يستطع أن يصل إلى تحقيق شيء من الأداء السياسي الإعلامي المأمول. الصحافة حققت الكثير من النجاحات التاريخية خلال فترة وجيزة، ولقد استطاعت صحيفة "الوسط" منذ قيامها أن تشارك بفاعلية في خدمة "الإنسان البحريني" والاهتمام بقضاياه واهتماماته الملحة، طبعا لا يمكن أن نضمن حيادية أي جهاز إعلامي، إلا أن "الوسط" طرحت الكثير من الموضوعات السياسية والاجتماعية التي كان تداولها في السابق من قبل بعض الصحف الأخرى مدعاة لتأزيم أوضاع الناس لا حلها. "حوادث شارع المعارض"، "سور المالكية"، "مقابر عالي"، والكثير من الملفات تم سبرها وتحليلها وصناعة رأي عام تجاهها بحيادية وصدق. هذا ما جعل التجربة الصحافية مقاربة للنجاح أكثر من أداء الأطراف الأخرى، إلا أن النجاح الحقيقي للصحافة لا يمكن أن يتحقق إلا حين تكتمل حلقة الفعل السياسي الاجتماعي ككل، نحن في الصحافة نأمل أن يقوم كل بواجبه، فالصحافة بينت استعدادها لدعم تجربة المرحلة قدر استطاعتها، إلا أنها لن تلعب أدوارا ليست لها. خلاصة القول، إن اطراف المرحلة أخفقت في الإجابة، وأمامها دور آخر لمراجعة إجاباتها إن كان "النجاح" هو ما تهدف له، وهذا على الأقل ما لا نريد مناقشته أو التشكيك في صدقيته: "الرغبة في النجاح" للتجربة.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ