تجري أحاديث كثيرة في البلدان العربية عن الجرائم السياسية، والتي تخلف معتقلين وسجناء رأي، وهي حال يرى نشطاء حقوق الإنسان ورجال القانون انها تشكل خرقا لحقوق الإنسان، الأمر الذي يفرض تشكيل وعي عربي في مفهوم الجريمة السياسية وتطورها، يعيد النظر بالسياسات التي تتابعها البلدان العربية إزاء الآراء والمواقف التي يتخذها أعضاء الجماعات السياسية ونشطاء المجتمع. "الوسط" التقت رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان مهند الحسني في دمشق وأجرت معه هذا الحوار بشأن موضوع الجرائم السياسية، والتغييرات المطلوب حصولها على الصعيد العربي من اجل تحسين البيئة السياسية، والدور الذي يمكن أن تلعبه الجمعيات الحقوقية في الحياة السياسية العربية. يجري الحديث دائما عن الجرائم السياسية، كيف تطورت الجريمة السياسية؟ - الجرائم السياسية هي من أولى الجرائم التي عرفتها البشرية منذ نشوء الجماعة الأولى، وتطورت لاحقا في مسارات مختلفة، فقد كان أباطرة الرومان يستندون في القضاء على خصومهم السياسيين إلى مفهوم الحروب التي كانوا يزعمونها عادلة، وغزلت الكنيسة على المنوال ذاته جريمتها الخاصة باعتبارها "جريمة الجلالة الإلهية" المقابلة لجريمة "الجلالة البشرية" واللاحقة بها تاريخيا وقد طبقت بكل عنف في اسبانيا على كل من لا يدين بالكاثوليكية باسم الدفاع عن العقيدة في مرحلة من المراحل. ومرت الجريمة السياسية في الإسلام بمرحلتين الأولى إبان الخلافة الراشدية: إذ مر خلالها مفهوم الإجرام السياسي بمرحلة فريدة من تاريخنا العربي الإسلامي، فلم يكن الخلفاء الراشدون يتبرمون من النقد بل كانوا يتحملون الطعن بأشخاصهم بصبر جميل وكانوا يجدون بأنفسهم خلقا كسـائر خلق الله وضربوا أروع الأمثلة في سعة الصدر وتحمل المسئولية ولم يكن هناك خط فاصل ما بين الجريمة السياسية والجنائية وإنما كانت جميعها تخضع لأحكام الحدود والقصاص، وما إن استحكمت شهوة ديمومة السلطة والطمع في حكم بني أمية حتى بدأت طلائع مرحلة جديدة تلوح في الأفق، فكان خلفاء بني أمية والعباس يعاقبون بكل قسوة كل من يتعرض لأشخاصهم، واستمر الحال على ما هو عليه حتى أصاب الأمة ما أصابها من بؤس وشقاء. وشهدت أوروبا مرحلة مظلمة من تاريخ الإجرام السياسي بظهور فلسـفة إنتهازية مع الوزير ميكافيلي الذي نشر كتابه الأمير العام "1532" والذي قامت فلسفته على أن الغاية تبرر الوسيلة وأن سلامة الدولة والحكم تبرر اللجوء لأي إجراء مهما كان قاسيا، واستمر الحال على ذلك المنوال حتى نهاية القرن الثامن عشر إذ بدأت الأفكار تغزو العقول والضمائر، وارتسم في فرنسا ما بعد العام 1789 الحد الفاصل الواضح والصريح ما بين الجرائم الموجهة ضد السلطة والجرائم الموجهة ضد الوطن أو الأمة، وانتقلت رياح التغير إلى إنجلترا حينما أصدرت الملكة قرارها الشهير الذي حصرت فيه جريمة الخيانة بزمرتين لا ثالث لهما، عرقلة انتقال التاج لولي العهد أو التهجم كتابة على نظام وراثة العرش، ما ادى الى اطلاق الحق في التفكير والتعبير والنقد، وأثر على إجراءات المحاكمة وقواعد التقاضي، ووسـع دائرة الضمانات المخصصة للمتهم لاسيما فيما يتعلق بالإجرام السياسي. وهو ما ينعكس أيضا على طريقة المعاملة داخل السـجن أو المعتقل مع السجين السياسي. فمع ظهور علم الإجرام الحديث كيف تتطور هذه الحالة في الواقع العربي: أعتقد أن مسـار الديمقراطية وحقوق الإنسـان في عالمنا العربي يمر بأزمة وذلك على رغم الكم الهائل من الوثائق النظرية والعهود الدولية والمواثيق الموقعة مع ما تتضمنه بين طياتها من مبادئ ســامية ونصوص براقة وقيم عدالة وعلى رغم كل ذلك فإن الهوة للأسـف الشـديد ما زالت كبيرة ما بين النظرية والتطبيق، فإذا ما استبعدنا بعض القوانين والمراسيم المقيدة للحريات والمكبلة للحقوق العامة نلاحظ أن المشرع العربي كان قد حظي بنظام تشـريعي لائق ومقبول ولا يختلف كثيرا عن أصوله في التشريعات الغربية المعاصرة، وبالتالي فإننا برأيي الشخصي لا نعاني في عالمنا العربي والإسلامي من أزمة تشـريعية صرفة بمقدار ما نعاني من الهوة ما بين النظرية الواردة في النصوص والتطبيق الموجود على الأرض. ويعود السـبب باختصار من وجهة نظري إلى أن الشــعوب العربية لم تنعم وحتى تاريخها بنعمة صندوق الانتخاب وفقا للحد الأدنى من المعايير المتعارف عليها دوليا. ما هي الفرضيات المطلوبة لإحداث تبدلات في الواقع العربي؟ - لا أعتقد أن هناك فرضيات مطلوبة. برأيي هناك فرضية واحدة مطلوبة وبشـدة لاسـيما في ظل واقعنا المعاصر ومحاولات الغزو الفكري والثقافي، إنها باختصار الارتقاء بالنظرة للمعتقل السياسي في عالمنا العربي والإسلامي بوصفه داعية خير وفلاحا وبوصفه إنسانا معتصما بمثالية أملت عليه واجبا أخلاقيا بالمساهمة بدفع عجلة التاريخ للأمام، وأن نؤمن جميعنا بحق الاختلاف بالرأي وبحقنا في التعبير عن هذا الاختلاف دونما توجيه للاتهامات المجانية بالعمالة والخيانة على الغارب ودون إعطاء الحق لأي طرف مهما علا شـأنه بأن يقيم الوطنية من عندياته ويوزعها بين الناس، وأن نؤمن بأن ممارسة الحق بالتفكير والتعبير لا يندرج بحال من الأحوال تحت بنود قانون العقوبات الذي عاقب المواطن على أفعاله لا على أقواله وآرائه ونواياه المفترضة سلفا، وأننا جميعا لنا عدو واحد يقبع متحصنا خلف الجدار الاستيطاني العنصري يدعى ارييل شارون، ونحن أحوج ما نكون لمواجهته مجتمعين دونما استبعاد أو إقصاء لأحد. ما هو الدور الذي يمكن لجمعيات حقوق الإنسان أن تقوم به في هذا الإطار وفي ظل هكذا أوضاع وما الصعوبات التي تواجه العمل الأهلي عموما؟ - أعتقد أنه مهما ضاقت بنا السـبل فهناك هامش للعمل الإيجابي الفعال يمكن لأصحاب الإرادات الخيرة أن يسـتثمروه. فكلنا يدرك أن الطريق شـاقة أمام مجتمعاتنا العربية وأن الديمقراطية والوعي بحقوق المواطنة الدستورية والمدنية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تحتاج لعمل منظم وثابت ومستمر وأن توطيد دولة الحق والقانون وتكريس مبدأ تكافؤ الفرص ليست هبات تهبط علينا من السـماء وإنما هي بحاجة لنمو بطيء وتدريجي في البنى الاجتماعية التحتية، وهذا النمو يحتاج لتضافر جميع الإرادات الخيرة من جميع الأطراف وعلى جميع المستويات وأؤكد هنا على كلمة جميع المستويات. لأن بعض الأنظمة في عالمنا العربي حاولت تحديث مجتمعاتها ودمرقطتها في ظل عدم التفريط بمصالحها الخاصة الضيقة فلجأت لممارسة دور وصائي رقابي على هذا النمو فضبطت إيقاعه بطريقة انتقائية بحيث سمحت له بالمرور في بعض أطراف جسـد الأمة دون الأطراف الأخرى فمثلا سـمحت لدماء التغير بالسير في بعض الشـرايين الحياتية للأجذع والأطراف التي تغذي الاقتصاد مثلا أو الرياضة أو النشاط الاستهلاكي لاسيما في المجتمعات الترفيهية، في حين ألزمت الشـرايين التي تغذي الجهاز العصبي المركزي للأمة بالدماء الفاسـدة أو منعت مرورها بالأساس ما أصابها بالتليف في كثير من الأحوال فلجمت على سبيل المثال عملية التطوير في أنظمة الحكم ودسترتها وشرعنة القوانين واحترام سيادة القانون ومبدأ فصل السلطات. ولهذا تكتسي المنظمات الحقوقية العربية سـماتها ومميزاتها التي تتصف في كثير من الأحوال بالخطورة والجدية لأنها تحاول باستمرار العزف على تلك الشـرايين الخطرة التي تغذي دماغ الأمة وأحاسـيسـها وهي خط أحمر بالنسـبة إلى كثير من الأنظمة العربية التي فعلت ما بوسـعها للسـيطرة على تلك الشـرايين وضمان انسـدادها ما يجعلها في وضع صدامي مع الأنظمة. بالنسـبة إلى الصعوبات، فهي ذات صلة بمصدرين، الأول حكومي: يتمثل بالتضيق والتخوين والاتهام المجاني ومحاولات الاختراق أو الرقابة المشـددة وفي بعض الأحيان التضييق الذي قد يصل للاعتقال بظروف مغلظة لتطبيق العقوبة في كثير من الأحيان. والثاني ذاتي: نجد جذوره في داخل بنية منظماتنا المدافعة عن حقوق الإنسـان فالعقلية الشـمولية أحيانا والخبث السـياسي أحيانا أخرى وحب الظهور وتضخم الأنا الذاتية ومحاولة الظهور بحجم أكبر من الواقع بكثير عند البعض حتى أضحى الدفاع عن حقوق الإنسـان يعطي شـيئا من النجومية الزائفة في مجتمعاتنا يدفع بعض المتنطحين للتمسح بحقوق الإنسان وكذلك هناك محاولات التوظيف السياسي لحقوق الإنسـان في بعض الأحيان كل ذلك من العلل والأمراض المسـتعصية الواجب حلها، لكني أعتقد أن كل تجربة لابد تشـوبها بعض السـلبيات وأعتقد أن اسـتمرارها مع الإصرار على معالجة السلبيات دونما وهن كفيل بتقويم مسارها. نعود لموضوع الإجرام السياسي هل ترى أنه من الممكن للواقع العربي أن يؤسس لصورة أخرى في التعامل مع موضوع الجرائم السياسية ؟ - أعتقد أنه من غير الإنصاف أن لا نشير إلى بعض التحسـن النسبي في التعامل مع هذا الملف. لكن التأسـيس لصورة عربية أخرى في التعامل مع ملف الاعتقال السـياسي يقوم على مجموعة من الدعامات المرتبطة ببعضها عضويا. وقد بدأت رياح التغير تهب على منطقتنا بعد السـقوط المدوي للاتحاد السوفياتي السابق وما حمله من تداعيات في الكثير من دول العالم كأوروبا الشرقية، والانهيار التاريخي لمفهوم الشـرعية الثورية والدولة المركزية الحامية والمسيطرة على جميع مفاصل الحياة اليومية للأفراد لاسيما القطاع العام الضخم والمترهل والذي كانت الدولة المركزية الحامية تسـد عجزه دوريا وبصمت مطبق في ظل انعدام المحاسبة والشـفافية والمسـاءلة التي لم تكن لتسـمح بها الحكومة المركزية المسـيطرة أمنيا ما شـجع على التجرؤ على المال العام والفســاد في الكثير من الدول التي أخذت بهذا النهج سـابقا. اليوم أدرك العالم ضرورة الفصل ما بين مفهوم الحاكم ومفهوم الوطن من جهة، والتفريق ما بين مفهوم السلطة ومفهوم الدولة من جهة أخرى وهي برأيي الخطوة الأولى اللازمة والضرورية لتأسيس صورة عربية أخرى ومختلفة في التعامل مع ملف الاعتقال
العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ