قام الإمام عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي "736هـ 1335م- 795هـ 1392م" بترتيب مصطلح الخراج وتنظيم سياقه التاريخي واستخداماته المتعددة على المستويين اللغوي والتطبيقي. فبدأ في معنى الخراج وما ورد عنه في السنة والأحاديث، ثم تناول أصله وأول من وضعه في الإسلام، وانتقل إلى استخداماته وتطبيقاته وتطور المفهوم وتحوله وانتقاله من صيغة إلى أخرى. فابن رجب قسم المسألة في كتابه "الاستخراج لأحكام الخراج" إلى رؤوس موضوعات وعالج معاني المصطلح على مستويات مختلفة، إذ قال بعضهم: "هو المال الذي يجبى ويؤتى به لأوقات محددة". وقال بعضهم إن الخراج يعني أجرا وبعضهم هو الغلة، وبعضهم هو اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال ويقطع على القرية وعلى مال الفيء ويقع أيضا على الجزية وعلى الغلة "ص 595". ويؤصل ابن رجب المصطلح شرعيا وما ورد عنه من أحاديث "في صحيح مسلم وسنن أبوداود" تدل على وقوعه وتقريره. فأرض الخراج على نوعين: أرض صلح وخراجها في معنى الجزية يسقط بالإسلام، وأرض عنوة اختلفوا في خراجها فقالت طائفة هو ثمن وقالت أخرى هو أجرة. وهناك من قال: "الخراج أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره" "ص 636". بعد تأصيل المصطلح يؤرخ ابن رجب تطور استخداماته. فسواد الكوفة كان في أيدي النبط فظهر عليهم أهل فارس فكانوا يؤدون إليهم الخراج. ولما ظهر المسلمون على فارس تركوا السواد فوضعوا الجزية على رؤوس الرجال ومسحوا ما كان في أيديهم من الأرض ووضعوا عليها الخراج وقبضوا على كل أرض ليست في يد أحد فكانت صوافي إلى الإمام "ص 599". كان السواد "الأرض الخصبة" في العراق قديما على المقاسمة ثم نقل إلى الخراج وبات على المساحة في عهد كسرى. وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب تم فتح العراق بقيادة سعد ابن أبي وقاص فجرى تنظيم خراج السواد. وينقل ابن رجب عن الإمام أحمد بن حنبل "كان الخراج على عهد عمر" يعني أنه لم يكن في الإسلام قبل خلافته. فعمر عمل بنصيحة علي بن أبي طالب "ع" ومعاذ بن جبل حين أشارا إليه بوقف السواد خراج على الأرض لتكون مادة للمسلمين. وقسم الأرض - كما ذكرنا - إلى عنوة وصلح. فأرض الصلح على العشر، والخراج على أرض العنوة ويجوز وضعه على جميع ما يفتحه الإمام عند من لا يوجب قسمته. فأطلق على أرض العنوة أرض خراج وعلى أرض الصلح أرض عشر. وعليه أوقف عمر أرض السواد "الخصبة" في العراق ومصر والشام وجعلها مادة للمسلمين ولم يقسمها كالغنيمة. إلا أنه منع بيع أو شراء أرض العنوة بينما يجوز بيع أراضي الشام والعراق ومصر غير الموقوفة أو التي صالح الإمام أهلها ثم وضع "الخراج على أرض السواد ولم يقسمها بين الغانمين وكذلك غيرها من أراضي العنوة" "ص 600". ترك عمر الأرض خزانة للمسلمين يقتسمونها خراجا كل سنة ولم يزل أمر السواد على الخراج إلى دولة بني العباس فجعله أبوجعفر المنصور مقاسمة حين رخصت الأسعار ولم تف الغلات بخراجها "ثم تبعه على ذلك ابنه المهدي وجعله مقاسمة بالثلث فيما سقي بالدوالي، وبالربع فيما سقي بالدواليب والنواضح" "ص 600". ويصنف ابن رجب أنواع الأراضي وما يوضع عليه الخراج من الأرض وما لا يوضع، فالأرض عموما إما تكون للمسلمين أو لغيرهم. وأرض المسلمين قسمان: أرض لها مالك معين وهي ما أحياها المسلمون من غير أرض العنوة أو ما أسلم أهلها عليها ولم يكن ضرب عليهم خراج قبل الإسلام، فهذه أرض لا خراج عليها. وأرض ملكها بعض المسلمين ابتداء كأرض قاتلوا عليها الكفار وقسمها الإمام بين الغانمين، فهذه أرض مملوكة لمن هي في يده ولا خراج على المسلم في خالص ملكه. إلى القسمين هناك ملكيات مختلفة من الأراضي وهي على أنواع: من كان في يده أرض الخراج فلا يسقط خراجها بإسلامه، وإذا لم يسلم وصالح على أرضه أخذ منه ما صالح عليه، وإذا أسلم بعد الصلح فأرضه عشر "أرض الصلح عشر وليست خراجا"، ومن يسلم بنفسه من غير قتال وفي يده الأرض فهو عشر، ومن أحيا مواتا في أرض الإسلام وسقاه من أرض الخراج يقع عليه الخراج "الخراج يقع على الماء المسقي به لا على الأرض"، و"أرض للمسلمين عموما ليس لها مالك معين" يوضع عليها الخراج في الجملة سواء كانت في أيدي المسلمين أو غيرهم، وأرض "الكفار التي صالحونا على أنها لهم ولنا عليها الخراج، فيثبت الخراج عليها أيضا بحسب ما صالحوا عليه" "ص 604". وتكون أرض عموم المسلمين على ضربين: أرض الفيء "هرب أهلها واستولى المسلمون عليها وأرض من مات من الكفار ولا وارث له" وأرض العنوة "التي قوتل الكفار عليها وأخذت منهم قهرا" "ص 605". وتم تصنيف أرض العنوة إلى أصناف خمسة: أرض مساكن "لا خراج عليها"، أرض ذات شجر ومزارع "وضع الخراج على جريب الكرم وجريب النخل" فالزرع ملك لزارعه والثمرة ملك لجميع المسلمين مصروفة في صالحهم، الأرض البيضاء التي لها ماء وقابلة للزرع "يضرب عليها الخراج"، أرض لا ينالها الماء "وقع خلاف بين الفقهاء بين قائل بضرب الخراج عليها وبين لا خراج عليها"، وأرض موات "إذا كانت أرضا ليست من أرض الخراج ولا يضر بأحد من المسلمين تقطع بينهم أو تعطى لمن يريد زراعتها" ومن أحيا مواتا من أرض خراج أو عشر فعلى الأولى الخراج وإذا لم يكن للثانية لها مالك فعليها العشر. اتفق معظم العلماء والفقهاء والقضاة على حكم الأرض واختلفوا على حكم الماء "السقي" فهناك من قال إن الخراج يؤخذ إذا سقيت الأرض بمياه الخراج وهناك من ميز بين المياه والأرض وهناك من جمع الحكم في المسألة مستندا على سنة عمر بن الخطاب حين وضع في عهده "الخراج على العامر والغامر. فالعامر ما زرع، والغامر ما لم يزرع لكن له ماء وسمي غامرا لأن الماء يبلغه فيغمره" "ص 653". ويطرح ابن رجب السؤال الآتي: هل الأرض المأخوذة عنوة تجري عليها الغنيمة أو الفيء؟ ويوضح أن هناك من قال "إن السواد فيء" وهناك من قال إن "الفيء ما أخذ من الكفار بصلح من جزية أو خراج" وهناك من قال إن الأرض فيء وليست غنيمة ويجوز للإمام "أن يقسم الأرض بين الغانمين وألا يقسم". فالإمام مخير بين القسمة وتركتها، فالقسمة غير واجبة. والخليفة عمر بن الخطاب "رض" لم يقسم الأرض العنوة بين الغانمين بل أحبسها "أوقفها" فالأرض "لا تقسم بل تترك فيئا" "ص 619". والخليفة عمر رد الأرض وضرب الخراج عليها كما ضرب الجزية "فصارت الأرض ملكا لهم وللمسلمين عليهم الخراج" "ص 625". كذلك جعل عمر أرض العنوة فيئا وأرصدها للمسلمين إلى يوم القيامة، وأرض العنوة يوضع عليها الخراج حتى لو أسلم صاحبها لاحقا، لذلك جعل عمر الفيء في ثلاثة أصناف: المهاجرون، الأنصار والذين جاءوا من بعدهم. الجمعة المقبلة.... استكمال قراءة كتاب ابن رجب الحنبلي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1106 - الخميس 15 سبتمبر 2005م الموافق 11 شعبان 1426هـ