قبل أربعة أعوام، جاءت شابة لبنانية إلى مجلة "الأم والطفل"، لتصوير طفلها الصغير. وأثناء الانتظار أخذت تدردش في قضايا شتى، حتى وصلنا إلى ميدان السياسة! كان "تحرير لبنان" حينها مازال طريا، كونه أول انتصار للعرب في حروبهم الطويلة ضد الكيان الصهيوني، وأعظم انجاز "عسكري" حققه العرب منذ خمسين عاما. الشابة اللبنانية من البداية تغيرت لهجتها واحتدت حين تحدثت عن دور المقاومة في تخليص لبنان من براثن الاحتلال، وذهلت حين سمعتها تقول انه لم يكن هناك أي تأثير أو دور للمقاومة، وانما هي "إسرائيل" قررت وانسحبت بإرادتها الحرة، ولو أرادت أن تبقى أكثر لبقيت! عدت بالذاكرة إلى الأيام الاولى من دحر "الجيش الصهيوني" من الجنوب. تذكرت كيف سحب رئيس الوزراء الصهيوني ايهودا باراك جيشه قبل الموعد المعلن، فقط لتقليل الخسائر وهروبا من الضربات التي ازدادت في الأيام الأخيرة من عمر الاحتلال المديد. قبل ليلتين، وفي لقاء على تلفزيون "المستقبل"، أشار الأمين العام لحزب الله السيدحسن نصرالله إلى تلك الأيام، وقال انهم على رغم تيقنهم من حتمية النصر، إلا انهم لم يكونوا يتوقعون سرعة انهيار العدو بهذه الصورة التي تمت، فهي أقرب للمفاجأة. تذكرت ذلك، وأنا أقرأ خبرا "استباقيا" أوردته وكالات الأنباء عن محللين اسرائيليين، يذهب إلى "عدم أهمية قطاع غزة في الاستراتيجية الإسرائيلية"، مع مبررات يسوقونها ليقنعونا بوجاهتها. لا ندري كيف تحول القطاع الذي احتفظت به "إسرائيل" 37 عاما، وخاضت من أجل الاحتفاظ به حربا شرسة وسفكت دماء آلاف الفلسطينيين لمدة خمس سنوات... كيف فقد فجأة أهميته بين يوم وليلة؟ دولة هي شريط حدودي ضيق، تحتاج إلى كل بوصة من الأرض، خاضت خمس حروب مع جيرانها العرب لقضم أراضيهم والتوسع على حساب حدودهم، كيف يصبح القطاع كله غير ذي أهمية بين ليلة وضحاها؟ ولماذا فقد أهميته فقط قبل يومين من الانسحاب؟ في يوم الاندحار من لبنان، صدرت تحليلات مماثلة، تريد إقناع العرب أن الانسحاب لم يكن بسبب المقاومة، وانما لأن مزاج "إسرائيل" تغير، فأرادت أن تتفضل على جارتها لبنان بمغادرة أراضيه، لأنها قررت الانسحاب ببساطة لأن لبنان فقد أهميته الاستراتيجية في الفكر الإسرائيلي! ووجد هذا التحليل صداه في أذهان الكثيرين، من بينهم تلك الشابة اللبنانية. المهم أن يظل العرب أسرى أسطورة "الجيش الذي لا يقهر". واليوم مع انسحاب الجيش نفسه، من بقعة طاهرة أخرى من أراضي العروبة والإسلام، علينا أن نؤمن ان القطاع فقد اهميته لدى "إسرائيل"، هكذا في طرفة عين! هذه "اللعبة" فضحتها صورة شارون في لقائه الأخير مع جورج بوش، إذ كان وجهه محمرا من الغيظ. فالرجل الذي وعد قومه بالقضاء على الانتفاضة خلال مئة يوم، وإذا بالانتفاضة تستمر حتى يضطر هو إلى الرحيل بعد كل المجازر وعمليات القتل والتفجير وحمامات الدم التي لم تتوقف طوال خمسة أعوام. ولأن المهزوم لا يعترف بهزيمته، علينا أن نصدق روايته: "قطاع غزة لم يعد مهما لدى "إسرائيل"! فلماذا قاتلت من أجله طوال هذه الأعوام؟
رسالة عن "البهلول"
القارئ الكريم الذي بعث بتعقيب على ما كتبته عن "البهلول في رحلته الأخيرة"... ألا توافقني أن التاريخ لا يمكن أن يكتب باسم مجهول؟ مع احترامي لما جاء في الرسالة، إلا أن غالبيته جاء متناقضا مع وقائع سيرته التي كتبها بقلمه، وترجمت إلى العربية. بانتظار اتصال أو رسالة أخرى للاطمئنان إلى مصادرك قبل نشرها، فهذا أقل ما تقتضيه الأمانة العلمية. ألست معي؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1106 - الخميس 15 سبتمبر 2005م الموافق 11 شعبان 1426هـ