أكد المرجع الديني السيدمحمد حسين فضل الله، أن الإدارة الأميركية سقطت أمام الامتحان الطبيعي في إعصار "كاترينا" كما سقطت في أكثر من امتحان سياسي وأمني. وأشار إلى أن أميركا - الإدارة هي المسئولة عن أكبر الكوارث التي أصابت العالم وتصيب المنطقة من خلال ظلمها وقهرها لشعوبنا وخلق بؤر الإرهاب في أكثر من مكان. وأكد أن ضحايا المنطقة كضحايا "كاترينا" ضحية الذهنية التي تتحكم بالإدارة الأميركية والساعية لسحق الفقراء لحساب الأغنياء. ودعا الشعوب العربية والإسلامية لمساعدة ضحايا إعصار "كاترينا"، مؤكدا أن الإسلام يتضامن مع المنكوبين والمظلومين ويرفض روح التشفي والانتقام. جاء ذلك، في معرض رده على سؤال في ندوته الاسبوعية، بشأن الموقف الإسلامي من المآسي التي تتسبب بها حركة النظام الكوني كما في إعصار "كاترينا" الأخير، فكانت اجابته كالآتي: لعل من أبرز الأمور التي يمكن أن يلاحظها أي باحث موضوعي، أو أي متتبع أكاديمي يتحلى بالروح العلمية وبالموضوعية أن الإسلام لم يحصر اهتماماته بالمنطقة التي يعيش المسلمون فيها، ولم ينظر إلى النطاق الجغرافي الإسلامي كدائرة مغلقة ليحصر تعاليمه الأخلاقية أو مفاهيمه التربوية أو حركة مناهجه الفكرية فيها، لأن الإسلام عالمي الرسالة وكوني التوجه وإنساني الحركة. وتابع: ومن هنا لاحظنا كيف ركز القرآن على الإنسان في توجيهاته إلى جانب التوجيهات الإلهية للمسلمين، وكيف أن النصوص الإسلامية لحظت هذا الجانب وفق القاعدة التي أكدها الإمام علي"ع": "الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"... وعلى هذا الأساس تنبه الفقهاء والعلماء إلى حقوق غير المسلمين داخل الدول الإسلامية أو خارجها، وعكفوا على وضع الأسس الشرعية للعلاقة معهم، وفق مبدأ رفض الظلم الذي قد يلحق بهم، باعتبار أن الظلم قبيح ومرفوض من حيثما انطلق وأن آثاره السلبية لا تنحصر بالبقعة التي يتحرك فيها، بل تتعداها إلى بقاع ومناطق أخرى، وفي المقابل، فإن العدل يقتضي بالمسلمين ألا يلجأوا إلى أساليب التشفي أو الانتقام من الآخرين وفق القاعدة القرآنية: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" "المائدة: 8". إن مبدأ الرحمة في التعامل مع الآخرين هو الأساس الذي ركزه الإسلام في قاعدته الفكرية والتشريعية وأراد للمسلمين أن يأخذوا به في حركتهم السلوكية ومناهجهم التربوية وأدبياتهم السياسية، فالله أراد للإنسان المسلم أن يعيش الرحمة في قلبه: "وتواصوا بالمرحمة"، كما أراد لنا أن نتلمس حركة الرحمة في رسالة الرسول"ص": "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ولاشك في أن الرسالة التي تضع كل ذلك في نطاق أولوياتها على مستوى العالم لا يمكن أن تقبل من أتباعها أن يتحركوا في خط التشفي والانتقام عندما تصيب المآسي الطبيعية أو السياسية أي شعب من الشعوب، بل أن يدعوهم إلى المساهمة في دفع حركة هذه المأساة ومساعدتهم على جميع المستويات التي من شأنها أن تعيد التوازن إليهم وتجعلهم ينتصرون على المأساة وآثارها. إن الإسلام الذي حث المسلمين على مصادقة العالم والتطلع إلى التفاهم مع الآخرين، وحث المسلمين على أن يحولوا أعداءهم إلى أصدقاء: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" "فصلت: 34"، لا يقبل منا أن نسلك أسلوب الآخرين في الظلم أو حتى في التعامل بروح التشفي والانتقام، وإن كان ذلك لا يعني أيضا أن نقبل الظلم من الآخرين أو أن نقر لهم بحركتهم السياسية الظالمة تجاه شعوبنا وقضايانا، ولكن إعانة المنكوبين هي في صلب التوجهات الإسلامية، ونحن نقرأ في بعض النصوص الإسلامية: "ومن كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب". ونحن نرفض النظرة إلى الكوارث من زاوية أنها عذاب إلهي أو غضب إلهي، إذ ليس من الضروري أن تكون مفصولة عن القوانين الطبيعية، وهي تصيب مناطق المستضعفين كما تصيب مناطق المستكبرين، وغالبا ما يكون تأثيرها على الفقراء أكبر ووقعها عليهم أصعب، ولذلك نفسرها تفسيرا طبيعيا انطلاقا من قوله تعالى: "قد جعل الله لكل شيء قدرا" "الطلاق: 3". ولذلك فنحن كنا مع مد يد العون إلى كل المنكوبين الذين أصابهم إعصار "كاترينا" في الولايات المتحدة، وخصوصا الفقراء الذين تركتهم إدارتهم يواجهون الموت والغرق، أو لم تتعاط مع الكارثة التي حلت بهم بالمستوى المطلوب من المسئولية في الإعداد لمواجهة الإعصار أو في العمل على التخفيف من آثاره، الأمر الذي كشف عن "وجود طبقية فظيعة في أميركا" على حد تعبير "الأوبزرفر" البريطانية، إذ تبين أن الفقراء وأصحاب البشرة السمراء تحديدا ليسوا محل اكتراث واهتمام إدارة بوش، وربما هذا الذي دفع ببعض رجال الإطفاء والشرطة هناك إلى الانتحار أو إلى نزع شاراتهم جراء الصدمة التي جاءت بفعل الإعصار والإهمال. إن ذلك يطل بنا على حقيقة، وهي أن الولايات المتحدة التي تقدم نفسها كقائدة للعالم، ويحرص رئيسها على تقديم نفسه كواعظ لأمم الأرض هي أعجز من أن تتصدى لكارثة طبيعية كانت محل رصد مسبق، وتركت كل هذه الآثار المدمرة، ونحن لا نشير هنا إلى عجز التكنولوجيا، بل إلى عجز الإدارة الأميركية نفسها وإلى سقوطها أمام هذا الامتحان الطبيعي بعد سقوطها أمام أكثر من امتحان سياسي وأمني في داخلها وفي العالم، وخصوصا في المنطقة. إن أميركا، التي كان وزير دفاعها يتباهى قبل أشهر بأن بلاده تستطيع شن أكثر من حرب في وقت واحد، تستدعي الآلاف من حرسها الوطني من العراق للمساهمة في مواجهة الإعصار، وتخفق أمام بعض اللمحات في ثورة الطبيعة، ما يؤكد عجزها في الميادين الأخرى، وهو ما يبدو واضحا في أكثر من موقع في العالم. وإن أميركا - الإدارة المسئولة عن أكبر الكوارث التي أصابت العالم وتصيب المنطقة من خلال ظلمها وقهرها لشعوبنا وخلقها لبؤر الإرهاب في أكثر من مكان، باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة، الذي أكد أن الإرهاب انطلق في العراق بعد غزو أميركا... إن أميركا هذه لا يمكن أن تقدم نفسها كقوة راعية للعدل في العالم أو كقوة قائدة، لأن القيادة تحتاج إلى حكمة لا إلى قوة فحسب، وأميركا الإدارة أظهرت عجزها الميداني والسياسي، إضافة إلى افتقادها للحكمة في التعاطي مع قضايا العالم وقضايا المنطقة في وجه خاص، وفاقد الشيء لا يعطيه، وبالتالي فإن شعوبنا، وخصوصا الشعب العراقي والشعب الفلسطيني والشعب الأفغاني، لا ينتظرون من بوش أن يتحرك بهم نحو السلام والعدل والديمقراطية، بعدما أدخل المنطقة كلها في حمى الحروب المتنقلة أو جعلها تسير وفق المخطط الإسرائيلي المرسوم سلفا. ولذلك فإن ضحايانا في المنطقة، كضحايا الإعصار "كاترينا"، هم في الأساس ضحايا الذهنية التي تتحكم بالإدارة الأميركية، ذهنية الأغنياء الذين يعملون لاجتياح الفقراء وسحقهم، وذهنية الغول السياسي والاقتصادي الذي يريد ابتلاع كل شيء لحسابه، وذهنية الغزو الذي لا يرى في الشعوب الفقيرة أو المجتمعات المستضعفة إلا مجرد أرقام يمكن العبث بها في كل وقت أو عندما تسنح الفرصة السياسية أو الأمنية. إننا في الوقت الذي نعلن عن تضامننا مع المنكوبين جراء إعصار "كاترينا" وندعو المسلمين في أميركا وخارجها إلى مواصلة العمل على مساعدتهم - بحسب إمكاناتهم - ندعو العالم إلى التعامل مع هذه الإدارة الأمريكية على أساس أنها العاجزة داخليا وخارجيا، وعدم الخوف منها وملاحقتها في كل ما انتهكته من قوانين وأسقطته من حقوق ورفض هيمنتها على الأمم المتحدة وعلى المواقع الدولية الأخرى، كما ندعو شعوبنا إلى الحذر مما تقدمه هذه الإدارة لها، لأنها تعطي السم في الدسم وتحضر لسلسلة من الاهتزازات في المنطقة وتعمل لنسف الاستقرار في أكثر من موقع فيها، ولأن فشلها الداخلي في الفوضى الإدارية والسياسية التي أعقبت الإعصار "كاترينا" قد يقودها إلى السعي أكثر إلى تعميم فوضاها "البناءة" في المنطقة بعدما أصبحت رائدة الفوضى على جميع المستويات
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1106 - الخميس 15 سبتمبر 2005م الموافق 11 شعبان 1426هـ