كسرت مصر حاجز الجمود والتيبس الذي حكمها طويلا، وبدأ "بندول" التغير فيها يتأرجح بدرجة لافتة، مشيرا الى بدء تحول مرحلة سياسية جديدة، تحكمها شرعية مختلفة عن تلك التي سادت خلال العقود الخمسة الأخيرة على الأقل، ونعني شرعية ثورة يوليو. وكما كان متوقعا فاز الرئيس حسني مبارك بفترة رئاسية جديدة لست سنوات، عبر انتخابات السابع من سبتمبر/ أيلول، متفوقا بدرجات كبيرة على منافسيه التسعة، وكما كان متوقعا أيضا فاز الرئيس بنسبة عالية هي 88,6 في المئة مقابل 7,5 في المئة لأقرب منافسيه مرشح حزب الغد أيمن نور، و2,9 في المئة لمرشح حزب الوفد نعمان جمعة. وكما هو متوقع أيضا فإن المنافسين الذين لم يحققوا نجاحا، ولا حتى منافسة حقيقية بنسب معقولة، قدموا الطعون ورفعوا الشكاوى، متهمين الحزب الوطني الحاكم بل الحكومة بارتكاب تجاوزات ومخالفات أثرت في النتائج النهائية للانتخابات ناهيك عن ملاحظات المؤسسات الحقوقية الأخرى. ولكن بصرف النظر عن أرقام الفوز الساحق من جهة، وعن الشكاوى والطعون من جهة أخرى، فإن ما نطمح إليه الآن، هو التطلع الى المستقبل لنقرأ التداعيات الحقيقية للانتخابات العامة المباشرة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية من بين مرشحين متنافسين، ومدى تأثيرها على فلسفة الحكم في مصر من الآن فصاعدا، ومن ثم على ممارساته في مختلف المجالات، وهو أمر ان كان يهم المصريين أولا، فهو يهم العرب جميعا باعتبار ان قاعدة التأثير والتأثر المتبادل تعمل من دون توقف. وبداية التأثيرات والتداعيات لهذا التغير في مصر، تتضمن بالضرورة قضية شرعية الحكم، مصدرها وأطرافها الفاعلة... ولا أشطح بعيدا ان قلت ان مرحلة شرعية ثورة يوليو، التي فرضت نفسها منذ العام 1952 حتى الآن، انتهت في السابع من سبتمبر ،2005 بعدما قدمت لمصر أولا التحول التاريخي من النظام الملكي الوراثي، الى النظام الجمهوري، وثانيا قدمت أربعة رؤساء جمهورية حكموا لأكثر من نصف قرن، هم محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك، كلهم رموز وأبناء الثورة وجنودها، وكلهم من قادة المؤسسة العسكرية، التي كان لها القول الفصل في منصب الرئاسة وكلهم جاءوا الى الحكم واستمروا فيه بالاستفتاء العام والبيعة وليس بالانتخاب الحر المباشر. وفي ظل هذه الشرعية، سادت وصاية القائد التاريخي والزعيم الملهم والأب كبير العائلة، كما سادت هيمنة الحزب الأوحد، ثم الحزب الأول المحكوم بعقلية الحشد والتعبئة والتجنيد الجماهيري والسياسي والدعائي. وعلى رغم رفع الثورة منذ بدايتها مبدأ "إعادة الديمقراطية السليمة" الا فإن التنكر لها أو النكوص عنها، أو الخوف منها، ظل مسيطرا على الزعماء الأربعة، ولكل أسبابه وظروف حكمه وطبيعة التحديات التي واجهها فساعدته أو أفشلته.
لكن تحت مطالبات شعبية متصاعدة، وفي ظل ظروف دولية ضاغطة، قفز حسني مبارك فجأة خارج حصار الشرعية القديمة، باقتراحه تعديل المادة 76 من الدستور ليفتح بابا من التحولات، مرت من خلاله انتخابات الرئاسة يوم الاربعاء الماضي، والتي فاز فيها، ولم نكن مع غيرنا نتوقع غير ذلك الفوز... والأسباب واضحة! وأهمية هذه الخطوة انها بشرت ببدء مرحلة الشرعية الجديدة، على اطلال شرعية ثورة يوليو، وهي شرعية الانتخابات العامة المباشرة لأعلى منصب في الدولة، التي تقوم على حق الناخب في الإدلاء بصوته لمن يريد، وحق الاحزاب السياسية والقوى الاجتماعية في التنافس، وحق التعددية الذي يعني فيما يعني حق تداول السلطة وتبادل المواقع. هذا هو المبدأ الذي يجب ان نتمسك به ونبني عليه ونؤسس لمستقبل مختلف، يتخلص من الوصاية المفروضة بأشكالها المختلفة، سواء وصاية الزعيم الملهم، أو وصاية المؤسسات التي ظلت تعتقد انها وحدها "صاحبة أسرار كهنوت الحكم" أو وصاية مراكز القوى التي عادة ما تنمو في ظل الحكم الفردي والوصايات المركزية غير الشعبية. وبصرف النظر مرة أخرى عن أي تجاوزات أو مخالفات حدثت في انتخابات الاربعاء الماضي، فإن الأهم الآن عدم الاغراق في التفاصيل الصغيرة، بل التمسك بالمبدأ واقرار الخط العام وترسيخه، مبدأ تحرير منصب رئيس الدولة، وبالتالي كل المناصب الأخرى من قبضة المبايعة والاستفتاء، وترسيخ خط الانتخاب الحر المباشر، مبدأ التنافسية، والتعددية وحرية العمل السياسي والرأي والتعبير وتحرير الجميع من قبضة البيروقراطية وعقلية الاستبداد التي لم تفرخ إلا غيلان الفساد! يشجعني على ذلك ما رأيناه وعايشناه خلال الاسابيع والشهور الماضية، من صحوة حقيقية انتابت الشارع وحركت القوى الكامنة والقدرات الراكدة في الحياة السياسية، بعد طول رقاد وانكسار بسبب الاحباط واليأس من أمل الاصلاح وسواء كان الحزب الحاكم يعني بما جرى اصلاحا حقيقيا أولا يعني شيئا سوى المرور من "سم الخياط" وضيق الدائرة، فإن الباب قد انفتح ولا مجال أو قدرة على غلقه والعودة الى الوراء، مرة أخرى بسبب العوامل الداخلية والخارجية مجتمعة.
فقد أفرزت التحولات والمتغيرات الأخيرة في الساحة السياسية المصرية، عناصر مهمة نرجو الا تغيب عن العين الراصدة، والمراقبة منها مثلا: - إعادة بعث الحيوية في الأحزاب السياسية من حيث الفكر والتنظيم، بعد ان جربت المنافسة على منصب رئيس الدولة، حتى لو اشتكت من أن المنافسة لم تكن متكافئة، في ضوء هذه الحيوية فإنني أتوقع أن تظهر أحزاب جديدة وشابة وأن تختفي أخرى، وان تتجدد أحزاب قديمة شاخت فنامت واستكانت! - صار حلم استعادة الصدقية والثقة في الحكم الديمقراطي، من خلال الانتخابات والتنافسية والتعددية وتداول السلطة ممكنا في المستقبل، بعد ان كان مستحيلا. - خرجت الى السطح ونزلت الشارع قوى جديدة وحركات احتجاج ورفض غاضبة، ظلت لعقود كامنة أو خائفة أو خانعة... وأظن أن بعضها سيتصاعد وبعضها سيختفي وبعضها الثالث قد يذوب في الأحزاب القائمة أو يؤسس أحزابا جديدة، وهي في كل الأحوال ظاهرة ايجابية تعبر عن حيوية واضحة، على غير ما يصفها آخرون، وانظر الى تكاثر حركات مثل "كفاية" و"شايفنكم"، ومحامين وصحافيين واطباء وأدباء بل وأطفال ونساء من أجل التغيير. الخ وهي حركات يجب عدم الاستهانة بها. - برزت في الساحة وبقوة أدوار منظمات المجتمع المدني الحقوقية، وخصوصا منظمات حقوق الانسان والدفاع عن الاصلاح الديمقراطي والحريات العامة، وقد لعبت دورا تحريضيا في اتجاه التحول والتغيير الديمقراطي من ناحية ودورا بارزا آخر في مراقبة الانتخابات الأخيرة، وكل انتخابات قادمة من ناحية أخرى. * لعبت الصحافة ووسائل الاعلام بأشكالها المختلفة، القومية والحكومية والخاصة دورا أساسيا هي الأخرى في هذا المعترك، استغلت فيه هامش الحرية المتاح، وتعددت من خلالها الآراء المعبرة عن القبول والرفض، واجتهدت في توسيع هذا الهامش، انحاز بعضها إلى مرشح الحزب الوطني الحاكم، وانحاز بعضها الآخر لمرشحين آخرين، أعجب بها البعض، وغضب عليها كثيرون! وبصرف النظر عن اتهامات هنا أو هناك للصحف القومية تحديدا بالانحياز، الا ان الصحافة ووسائل الاعلام المصرية خاضت تجربة جديدة وأسهمت بقدر في دفع مسيرة التغيير والاصلاح وفي التمسك بحرية الرأي والتعبير. - لفتت المؤسسات الدينية الانظار ونعني الأزهر والكنيسة القبطية بتدخل رموزهما الكبيرة وخصوصا الامام الأكبر الدكتور طنطاوي وقداسة البابا شنودة، في العملية السياسية، بل والدعاية المباشرة لصالح مرشح ضد آخرين، فإن جاء هذا التدخل الديني في السياسة من جانب الأزهر والكنيسة فلماذا نعيب على جماعة الاخوان المسلمين مثلا تدخلهم... مسألة تحتاج إلى إعادة النظر حتى لا تختلط الأمور وتتداخل الأدوار. - لفتت النظر أكثر، الأرقام التي أسفرت عنها الانتخابات، اذ نسبة المصوتين 23 في المئة فقط، بمعنى تخلف 77 في المئة، من 32 مليون ناخب، وإذ الفارق بين الفائز الرئيس مبارك وبين التالي له أيمن نور نحو ستة ملايين صوت، وإذ لم يحصل مرشح حزب الوفد نعمان جمعة بكل تاريخ الوفد الممتد إلى نحو 87 عاما منذ تأسيسه العام ،1918 الا على نحو 209 آلاف صوت فقط... كلها أرقام تحتاج إلى تعمق في دراسة الخريطة الحزبية، لأنها تعبر ايضا عن متغيرات أخرى! أخيرا... بقدر أهمية قراءة مغزى هذه المتغيرات السابق ذكرها بقدر ما ان الأهم هو رصد ومتابعة خطوات المستقبل، فقد حمل برنامج الرئيس الفائز الذي قدمه للشعب، قدرا كبيرا من الوعود التي تبدأ بمحاربة البطالة وتصل الى حد التبشير بتغيير جوهري في نظام الحكم، برموزه ومؤسساته وسلطاته، مرورا بتدعيم الديمقراطية والغاء الطوارئ وتحديد سلطات الرئيس وتعديل النظام الانتخابي، بل واجراء تعديلات أخرى في الدستور تفتح الباب أمام التحول الديمقراطي. ومن حسنات النظام الانتخابي الحر، كما هو الحال في الديمقراطيات المستقرة، ان الناخبين يحاسبون من انتخبوه وفق برنامجه الانتخابي الذي تقدم به وفاز على أساسه، وأظن ان حال الصحوة الراهنة في مصر، بما تحمله من احتمالات التصاعد والنضج، لن تتأخر عن المساءلة والمكاشفة والمحاسبة، ليس فقط من أجل المحاسبة، بل أيضا من أجل ترسيخ المبدأ. ساعتها يحق للمصريين ان يفخروا بمسيرة الاصلاح الديمقراطي الوطني والقومي، التي دخلت هذه الأيام مرحلة جديدة بشروط معروفة.
خير الكلام
اللهم هبني التواضع عند النصر، والعزيمة عند الهزيمة
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1104 - الثلثاء 13 سبتمبر 2005م الموافق 09 شعبان 1426هـ