العدد 2422 - الخميس 23 أبريل 2009م الموافق 27 ربيع الثاني 1430هـ

الإسلاميون التقدميون... معالجة الجمود بالتبديد!

حسام تمام comments [at] alwasatnews.com

كان العام 2000 يلفظ أنفاسه الأخيرة حين صدر واحد من أهم الكتب في مجال الحركات الإسلامية وعلاقتها بحركة التجديد الإسلامي المعاصرة، ولم يلتفت إليه أحد في زحام الانشغال بوداع قرن واستقبال قرن جديد.

الكتاب هو «الإسلاميون التقدميون»، ومؤلفه الكاتب التونسي «صلاح الدين الجورشي»، وصدر عن «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» بمصر قبل أيام من نهاية ديسمبر/ كانون الثاني العام 2000.

والكتاب هو أول دراسة وافية باللغة العربية لتجربة الإسلاميين التقدميين التي كانت نواة لما صار يعرف بعد ذلك باليسار الإسلامي، والتي ظهرت في تونس قبل عقدين من الزمان، ولم يكتب عنها باستثناء هذا الكتاب إلا باللغات الأجنبية، والمؤلف هو أحد الذين أسسوا لهذا التيار بعد أن انفصل عن حركة الاتجاه الإسلامي (الإخوان المسلمون بتونس).

والإسلاميون التقدميون تجربة فريدة ونادرة في تاريخ الحركات الإسلامية، وحركة التجديد الإسلامي في القرن العشرين وقيمتها ليست كرقم أو إضافة تنظيمية وحركية، فقد كانت فاشلة ومتعثرة بهذا المعيار وبشهادة أصحابها، فلم تسجل رقما في المعادلة التنظيمية للحركة الإسلامية، ولم تشكل أية إضافة لها على المستوى الجماهيري، فقد بدأت - وأظنها انتهت - قليلة الأنصار ضعيفة التأثير والفعل بكل المعايير الحركية والجماهيرية، وإنما تتركز قيمتها في كونها النموذج الوحيد بين فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة لمحاولة التجديد خارج الأصول والقواعد الثابتة للفكر والفقه الإسلامي.


النشأة ومحاولات التطور

طوال تاريخه كان الفكر والفقه الإسلامي كما يرصد المفكر والمؤرخ الإسلامي «طارق البشري» يتجدد من داخله ومن مادته، وكان جديده يخرج من قديمه بأساليبه نفسها ومناهجه ومنطقه في التجديد، وكان كل فقيه أو مفكر مجدد يخرج من عباءة سابقيه بعد أن يكون قد استوعب نظراتهم ومناهجهم، وأضاف إليها بما يتفق وتحديات عصره، لكن كان الوضع مختلفا بالنسبة لتجربة الإسلاميين التقدميين الذين حاولوا التجديد خارج القاعدة الأصلية للفقه والفكر الإسلامي، وبعيدا عن الأصول والثوابت التي قامت عليها، بل ووفق مرجعيات أخرى تختلف مع المرجعية الإسلامية، بل وتتناقض معها.

لم يكن الأمر في البداية مخططا له، ولم يكن هناك مشروع أو نظرية كاملة ومتكاملة للتجديد خارج الإطار وبعيدا عن المرجعية الإسلامية، وإنما كانت البداية بتساؤلات بسيطة عن إشكاليات الهوية والثقافة والحداثة وغيرها من الأسئلة التي ولدتها عقلية محاورة ونقدية ومتسائلة تسعى للخروج على بناء تنظيمي، يصعب فيه إدارة الخلاف بشكل ديمقراطي يحتوي الجميع.

وكانت سلسلة التساؤلات محاولة أو تحركا لمواجهة ما يمكن أن يسمى بحالة الجمود التي كانت تعانيها الحركة الإسلامية، وخاصة في تونس، وكلها انتهت كمشروع مغاير تماما للحركة وخارج عنها وعن بقية الحركات الإسلامية السنية الأخرى. وبدا الأمر أن مجموعة الإسلاميين التقدميين حاولت أن تعالج خطأ الجمود، فارتكبت خطيئة التضييع والتبديد، تبديد كل القواعد والثوابت الإسلامية التي بدونها يمكن أن توصف حركتهم التجديدية بأي صفة، أبعدها الصفة الإسلامية!

والبداية كما يقول المؤلف كانت مع اصطدام أعضاء حركة الإسلاميين التقدميين مع أفكار الشهيد «سيد قطب» الذي كان ينظر إليه باعتباره المفكر الأول وربما الأوحد للحركة الإسلامية، والذي صاغ لها مشروعا متكاملا يتجاوز بها الإطار المحلي، ويضعها ضمن منظور عالمي بما جعله المصدر الرئيسي للأفكار في الحركة الإسلامية بمختلف فصائلها.

وقد بدأ الصدام مع رؤية سيد قطب للتغيير والتي كانت في نظر الإسلاميين التقدميين تمثل قفزا فوق التاريخ والواقع، ثم امتدت لتشمل بقية منظومته الفكرية بأفكارها الرئيسية الحاكمية، الجاهلية، والعزلة الشعورية... ولم يتوقف الأمر عند سيد قطب وأفكاره ولم يقتصر النقد على نقاط الخلل الفكرية أو التربوية أو الحركية التي كانت تعانيها الحركة، بل كرّت المسبحة واندفعت مجموعة الإسلاميين التقدميين لمناقشة ونقد كل منظومة أفكار الإخوان المسلمين وبقية الحركات الإسلامية السنية الأخرى، إذ انتهت إلى نقد مجمل أفكار الأيدلوجية الدينية المؤسسة لها، ونقص المنظومة السلفية التي تمثل القاعدة التي تقوم عليها كل الحركات الإسلامية السنية في العصر الحديث.


تجديد متعثّر

وكانت نقطة الخروج الأساسية هي سلطة النص الديني المقدس والتي تمثل في المنظومة السلفية سلطة مطلقة، في حين لم يسلّم الإسلاميون التقدميون بهذه السلطة المطلقة، فتجاوزوها وخرجوا عليها لحساب العقل والمصالح المعتبرة وغير ذلك من مبررات الخروج على سلطة النص الديني المقدس، والمفارقة أن الخروج على هذه السلطة بدأ بتبني نظرية المقاصد التي تم توسيع حدودها والمبالغة فيها بشكل أخرجها تماما عما كان يعنيه الإمام الشاطبي في الموافقات.

ومن ناحية أخرى، عمل أعضاء المجموعة على الانفتاح على مصادر أخرى للفكر والثقافة غير المصدر الإسلامي الذي لم يَعُد بدوره مقتصرا على المذهب السني فقط، بل تنوع ليشمل الشيعة والمعتزلة وغيرها من المذاهب الإسلامية الأخرى، وحاولت المجموعة صوغ رؤية أو توليفة جديدة من مصادر دينية وثقافية وفكرية مختلفة، واستعانوا فيها بمرجعيات أخرى غير إسلامية بما فيها الماركسية التي أثرت في رؤيتهم للمسألة الاجتماعية والاقتصادية إلى حد كبير، وكانت أول تجربة إسلامية تعتمد الماركسية كمصدر فكري لها، فأثمرت ما صار يعرف باليسار الإسلامي.

والكتاب ليس تاريخا تقليديّا يُعنى بتاريخ التجربة بتفاصيلها، فهو رصد لجملة الأفكار والإشكاليات التي أثارتها والنقاشات التي تمخضت عنها في أوساط الحركة الإسلامية في تونس وفي المنطقة العربية، من خلال ما عرف بعد ذلك بتيار اليسار الإسلامي الذي ظهر في بعض البلدان العربية كامتداد لتجربة الإسلاميين التقدميين بتونس، وهي إشكاليات وأفكار يرى أصحابها ومنهم المؤلف أنها ما زالت مثارة ومطروحة على الحركات الإسلامية إذ لا تستطيع تجاوزها والقفز عليها أو التوصل إلى حل، استنادا إلى المناهج التقليدية السائدة والمعتمدة لديها، ومن أهمها: قضايا المرأة، الحداثة، النقابات، العمال، والموقف من الغرب، وغيرها من القضايا الحارقة والمتفجرة.

ويتعرض الكتاب للمصادر الفكرية التي ساهمت في تشكيل وعي مجموعة الإسلاميين التقدميين، وخاصة في بداية نشأتهم، ويخص من أهمها مجلة «المسلم المعاصر» في بداية ظهورها، وكتابات «فهمي هويدي» الأولى، ومؤلفات «فتحي عثمان» و»حسن حنفي» ومحاضرات «حسن الترابي»، والأعمال الكاملة لرموز النهضة العربية كـ «الكواكبي» و»الطهطاوي» و»الأفغاني» و»محمد عبده»... وكتابات الفيلسوف الهندي «محمد إقبال»، كما يرصد أهم مصادر الفكر العالمي التي أثرت في أفكار المجموعة.

وعلى رغم إيمان المؤلف بما تبنّته المجموعة من أطروحات يُقِرّ أنهم وإن نجحوا في إثارة القضايا المهمة والمتفجرة، فإنهم لم يستطيعوا صوغ منظومة فكرية متكاملة الحلقات والرؤى، وأنهم ربما أجادوا فتح الأبواب لقضايا مختلفة لكنهم لم يستطيعوا إكمال السير فيها، فتركوا ملفات ضخمة من دون معالجات كاملة في قضايا سياسية وتراثية وتاريخية وعقائدية واقتصادية وفكرية واجتماعية...

والمفارقة التي يختم بها المؤلف حديثه عما انتهت إليه تجربة الإسلاميين التقدميين من تهميش وانزواء، هي أن أكثر الذين لم يتفاعلوا مع هذه التجربة أو يمدّوا إليها جسور التفاهم والحوار هم أبناء التيارات غير الإسلامية التي انفتحت عليها التجربة، وخاصة اليسار والماركسية تحديدا؛ إذ إنهم كبقية أبناء النخبة العلمانية التي هيمنت على تونس منذ عقبة «الحبيب بورقيبة» فضلوا القطيعة المعرفية الشاملة مع كل ما هو إسلامي حتى ولو كان في صدره توليفة إسلامية يسارية.

وعلى كلٍّ، فقد عاشت تجربة الإسلاميين التقدميين كنبت غريب وانتهت كمجموعة من البحوث والنقاشات والأوراق التاريخية في أرفف المكتبات، ولم يكتب لها أن تستمر في وعي الجماهير المسلمة بسبب خروجها على الثوابت المعتمدة لديها.

العدد 2422 - الخميس 23 أبريل 2009م الموافق 27 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً