أدى اضمحلال الأمارة الأموية في الأندلس في مطلع القرن الخامس للهجرة إلى تبعثر العصبية المركزية وقيام عصبيات محلية متنافرة توزعت على مراكز قوى متنافسة سياسيا. وساهمت اللامركزية في نهوض توازنات زئبقية تتمايل باتجاهات متضاربة من دون ثبات أو استقرار. ولعبت التداعيات العصبية دورها في نشوء دويلات يقودها أمراء محليون لا طاقة لهم على مواجهة الفرنجة ولا قدرة عندهم على حسم توازنات الداخل الأندلسي وإعادة ترتيب التحالفات وفق صيغة ائتلافية ترأسها شوكة كبرى تتجمع حولها أو تلتحق بها عصبيات صغرى.
لم يقتصر الانهيار على المستوى السياسي بل ألقى بظلاله على مختلف القطاعات الاقتصادية والثقافية فانهارت منظومات معرفية كانت ملتحقة بالتراتبية الاجتماعية، ونهضت مكانها أنظمة فكرية مغايرة حاولت أحيانا التآلف مع التحولات وكانت أحيانا أخرى تعكس الأمزجة المتناقضة في ساحة الأندلس.
يشكل ابن حزم في الإطار التاريخي المذكور ظاهرة مركبة تعرضت لتحولات تاريخية شكلت في آلياتها الداخلية سياقات متضاربة على ثلاث محطات زمنية. الأولى: مرحلة الطفولة وهي فترة الأب (الأديب والوزير) في ظل الدولة الأموية - العامرية. الثانية: مرحلة الشباب وهي فترة الأب والابن في ظل تنافس الأمراء الأمويين تحت سقف الفتنة الأندلسية. الثالثة: مرحلة الرجل الشاب وهي فترة موت الأب ونزوع الابن نحو احتلال موقع في ظل تقاتل تناحري لا يرحم انتهى بسقوط الدولة الأموية وتبخر حلم المستقبل.
انتهت المراحل الثلاث بفشل محاولات إعادة الزمن إلى التآلف والانسجام في لحظة انتقل فيها ابن حزم (الرجل الشاب) إلى درجة أرقى من النضج. وتصادفت اللحظة مع فترة خروجه من سباق التنافس وانتقاله إلى مقاعد المتفرجين في عهد «أمراء الطوائف». وكان عليه أن يختار بين الخروج من دائرة الصراع أو متابعة المشهد إلى نهايته المأسوية. واختار ابن حزم الخروج من ساحة العمل السياسي، التي لاقى فيها الأهوال وتعرض للمطاردة واعتقل أكثر من ثلاث مرات، إلى ساحة النضال الفكري. فشخصية ابن حزم المتشعبة لم تنكسر مع انكسارها السياسي بل تواصل منطقها التصادمي لتتميز وتستقل عقائديا في حقلي الفقه والفلسفة. فأسس مدرسة تقوم على منظومة خاصة من المعارف سيكون لها تأثيرها اللاحق على مختلف الاتجاهات المعرفية في الأندلس من أدبية وفلسفية وفقهية. كذلك سنجد بصماته على الكثير من رموز الاعلام الأندلسية والمغربية ابتداء من ابن باجه وابن طفيل وابن رشد وانتهاء بابن خلدون.
كان لتعدد معارف ابن حزم وتنوع أنشطته وتجربته الشخصية وتميزه على أكثر من صعيد الدور الحاسم في تكوين وعي مركب مزج بين الفقه والفلسفة والتاريخ. وبسبب شخصيته التصادمية التي انتقلت معه من السياسة إلى الفكر تميزت كتاباته بالوضوح والصرامة والتضاد مع المختلف معه. إلى الوضوح في قول ما يريد، والسيطرة على نصه، والقدرة على إدارة النقاش في أضيق الحلقات، كان قاطع الكلام في جداله وسجالاته مع الاتجاهات المضادة. فهو بحق مؤسس الاستقلال الفلسفي الإسلامي في الأندلس كنظيره الإمام الغزالي في المشرق والعالم الإسلامي. لذلك فأي كلام عن تاريخ الفلسفة الإسلامية في الأندلس لا يشير إلى التأثير الحاسم لمكانة وموقع ودور ابن حزم الظاهري في تطوير النص الفكري وتثبيت النقلة التاريخية وملاحظة فروقاتها بين مرحلتين (الانتقال من الأموية إلى أمراء الطوائف) سيبقى ناقص القيمة لا يربط حلقات المعرفة الإسلامية وتراكم المنظومات الفكرية وتطورها العام في سياق علاقاتها الخاصة بالبيئات المحلية والفترات الزمنية التي أحاطت بها.
الصراعات بين «أمراء الطوائف» وتنافسهم على الحكم أتاحت لرجال العلم والفقه والقضاء والفلسفة التفرغ للعمل الفكري وإنتاج المنظومات المعرفية بسبب حاجات أصحاب الدويلات (المدن والمقاطعات) إلى غطاء شرعي لسياساتهم غير الشرعية. وبرع في زمن ابن حزم الكثير من العلماء وشهدت البلاد حالات تجاذب بين المدارس الفكرية والفقهية والفلسفية في وقت أخذت «البيئة» الأندلسية في لحظات استقلالها الفوضوي عن المراكز السياسية في المغرب ومصر والعراق تؤسس شخصيتها الفكرية الخاصة.
أسهم التنافس على السلطات المحلية - الذي اشتمل الفتن الداخلية وحروب الفرنجة على المواقع الأمامية وقيام ظاهرة الخصومات السياسية القبلية التي تطورت واتجهت نحو التنسيق وأحيانا التحالف مع الفرنجة لتسجيل انتصارات جزئية ضد أمير منافس - في إنعاش حركة فكرية كبرى كان ابن حزم أحد أبرز أعلامها.
ارتبطت منظومة ابن حزم الفلسفية من البداية بمنهجه الفقهي. ففلسفته ملتصقة بالفقه بل هي فلسفة فقهية ربطت الشريعة بالمنهج العقلاني الذي استقاه من الكتاب والسنة. وبمقاييس عصره اعتبر منهجه من أغرب الاتجاهات نظرا لتمسكه العجيب في الجمع بين القرآن في ظاهره وحرفيته والعقل في أدلته وبراهينه واستطاع أن يؤلف مدرسة شديدة التعقيد والتركيب أثارت أجواء صدامية ونقدية غير مسبوقة في زمانه ومكانه. فابن حزم سبق الإمام الغزالي بنحو نصف قرن في نقد الفلسفة الإسلامية (الإغريقية) وسبق القاضي ابن رشد بأكثر من قرن في نقد المتكلمة والطريقة الأشعرية.
إلى ذلك كان من أبرز من ساجل في زمانه ضد منهج الجمع بين أهل الحديث وأهل الرأي. وتميز عن سائر المدارس الفقهية عندما وضع الإمام أبوالحسن الأشعري (وهو على المذهب الشافعي) خارج دائرة أهل السنة وصنف الأشاعرة من المرجئة. والمرجئة بحسب تصنيف الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» أربعة: الخوارج، القدرية، الجبرية، والخالصة. وكان غيلان الدمشقي «أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء». والإرجاء تأتي على معنيين: التأخير «لأنهم كانوا يؤخرون العمل على النية والعقد»، أو إعطاء الرجاء وهو معنى ظاهري إذ إنهم كانوا يقولون «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة». (الجزء الأول، صفحة 139).
أثارت تهمة الأشعري بالمرجئة أصحاب المذهب الشافعي فزادت مقاومة أفكار ابن حزم (الذي انتقل من الشافعية إلى الظاهرية) من الفقهاء السنة خصوصا من أنصار المذهب المالكي السائد بقوة في البرين المغربي والأندلسي.
اتهم ابن كثير الحنبلي (توفي 774 هجرية/ 1372 م) ابن حزم بأنه كان كثير الوقيعة بين العلماء بسبب قسوة لسانه وقلمه فأورثه ذلك «حقدا في قلوب أهل زمانه، ومازالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده». وينتقد منهجه الظاهري ويرى أنه كان حائرا في الفروع «لا يقول بشيء من القياس، لا الجلي ولا غيره» الأمر الذي أوقع بينه وبين العلماء و«أدخل عليه خطأ كبيرا في نظره وتصرفه». لكنه كان مع الاجتهاد والتأويل وكان من أكثر الفقهاء تأويلا «في باب الأصول، وآيات الصفات، وأحاديث الصفات». والسبب برأي ابن كثير تضلعه في علم المنطق الذي أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، وهو ما أدى لاحقا إلى فساد حاله «في باب الصفات» (الجزء 12، ص 100)، بينما اعتبره ابن بشكوال من أجمع أهل الأندلس قاطبة بعلوم أهل الاسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان إلى البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار (ص8، مقدمة كتاب الفصل).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2422 - الخميس 23 أبريل 2009م الموافق 27 ربيع الثاني 1430هـ