العدد 2422 - الخميس 23 أبريل 2009م الموافق 27 ربيع الثاني 1430هـ

أزمة الليبرالية في المجتمعات العربية

عصام عبدالله اسكندر comments [at] alwasatnews.com

يصعب علي الحديث أمام هذا الحضور المتميز عن «الليبرالية»، ليس لأنكم (ملح الأرض)، وهي السمة المميزة لليبراليين في كل زمان ومكان، وإنما لأن أهل البحرين بصفة خاصة، هم أصحاب فضل في اطلاعي الباكر على معنى الليبرالية ومغزاها. وفي مصر، يقول المثل الشعبي على من في مثل موقفي المحرج هذا: «رايح يبيع المية في حارة السقايين»!

لذا اسمحوا لي، أن نتشارك سويا بعض الأفكار والهموم، والآمال أيضا، علنا نتفق أو نتوافق على خارطة طريق لليبرالية في مجتمعاتنا العربية. فليس من شك في أن الليبرالية اليوم تمر بأزمة. و»الأزمة» بالمفهوم العلمي، هي الحالة التي تسبق الانهيار أو العافية، ومن هنا فإن أزمة الليبرالية يمكن أن تؤدي إلى انهيار أسس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات ومنظومة الحريات العامة، في المجتمعات العربية التي تتشكل من أكبر فسيفساء ثقافية ودينية وإثنية، أو أن تتعافى تماما وتصبح قاطرة الأمل وطوق النجاة لأسخن منطقة في العالم على الإطلاق.

مع دخولنا الألفية الثالثة، وشعارها «تجدد أو تبدد»، يتجه الفرد نحو العولمة والعالمية (والمواطنة الديموقراطية)، في نفس اللحظة التي يميل فيها للتشبث بأصوله وهويته، بطريقة مفتعلة ومتطرفة، وهو ما يعرف اليوم بظاهرة «تنامي الأصوليات الدينية»، وانتعاش الطائفية والنزعة القبائلية والعشائرية ومعظم الانتماءات ما قبل الوطنية، وهو ما أصبحنا نستشعر خطورته من المحيط إلي الخليج.

ولن أضيف جديدا إذا قلت أن السيناريوهات المطروحة الآن بقوة في هذه المنطقة، تتمثل في تغيير الجغرافيا بالتقسيم أو تعديل الحدود، وإما بتغيير البشر بالانصهار القسري أو الإبادة أو الهجرة، وإما تغيير المؤسسات بجعلها أكثر ديموقراطية اعتمادا على فكرة المواطنة حسب المفهوم الليبرالي.

وهذا يضعنا مباشرة في قلب المسئوليات الجسام الملقاة علي عاتق الليبراليين في المجتمعات العربية، إذ ينتظر منا نحن معشر الليبراليين الكثير، باعتبارنا الحصن الحصين للحريات العامة والحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية، والملاذ الأخير للمواطنة والديموقراطية الليبرالية الدستورية، من جميع القوى والتيارات والطبقات الاجتماعية. وبالتالي فإن التباطؤ في حمل هذه المسئولية (الرسالة) أو التنكب عن سبيلها، يعجل بتحقيق السيناريو (الأول والثاني) على الأرض، وبالحروب الأهلية والطائفية التي لن ينجو منها أحد، والعودة إلى ما قبل العصور الوسطي.

أقول هذا وأنا أعلم أن التيار الليبرالي هو الأكثر قدرة اليوم على التعامل مع ملف الطائفية والقبائلية والعشائرية الذي بدأ يفرض نفسه بقوة، فضلا عن أنه التيار الأكثر قبولا من الأطياف السياسية المتباينة، كون منطلقاته الفلسفية والنظرية غير دينية أو مذهبية. وأخيرا لأنه التيار الوحيد الذي له صدقية أخلاقية عالية، تفتقدها أغلب النخب السياسية الحاكمة والتيارات الدينية على السواء، خصوصا أن الكيمياء العالمية تسير في اتجاه الليبرالية والتعددية والاختلاف في عصر العولمة، بعد سقوط الشمولية والأحادية والمطلقية.

ما ذكرته حتى الآن، هو من نقاط القوة للتيار الليبرالي، التي يجب التمسك بها وتطويرها والبناء عليها، وليس تركها للنخب الحاكمة، وإن صدقت، أو للتيارات الدينية المعارضة، وإن أخلصت. فالمتابع عن كثب لحركة الأحداث في المجتمعات العربية لابد وأن تستوقفه حمى الالتفاف من قبل هذه النخب وتلك التيارات الدينية، حول منجزات الليبرالية ومرتكزاتها، في محاولة حثيثة لسحب البساط من تحت أرجل الليبراليين، بالادعاء تارة والاغتصاب تارة أخرى، لأفكار العدالة الاجتماعية والحريات السياسية، ولمفاهيم المواطنة والمساواة والديموقراطية والدولة المدنية (والنموذج الأبرز على هذا «الأخوان المسلمون» في مصر).

لكن، ما الذي يجعل الليبرالية اليوم تقف هذا الموقف الخاطئ، لا تملك إلا أن تنعى الأطلال وأن تلقي باللوم والمسئولية على الآخرين؟ بكلمة واحدة، لأننا لم نمارس النقد الذاتي بعد، وبداية هذا النقد هو أن نعترف بأن جزءا كبيرا من أزمة الليبرالية في مجتمعاتنا العربية، هو نحن أنفسنا وليس الآخرين فقط!

وإذا طبقنا استراتيجية التفكيك الدريدي، سنكتشف أن النقد الليبرالي للمجتمع العربي وثقافته (باعتبارها ثقافة متخلفة خرافية غير عقلانية تغيب عنها الحرية والفردية والمواطنة والتعددية والتسامح)، إلى آخر هذه المثالب التي تصل إلى حد «جلد الذات العربية»، فإن هذا النقد ذاته، يكشف وبنفس القدر، عن أسباب ضعف التيار الليبرالي، وهي تتلخص في وجود فجوة على درجة كبيرة من الاتساع والعمق، تفصل هذا التيار عن الشارع العربي، وتمنعه من التأثير والالتحام مع هموم المواطن البسيط والاشتباك مع قضاياه، ناهيك عن فشل التيار الليبرالي في صياغة خطاب سياسي يجتذب قطاعات شعبية واسعة، والنزول من برجه العاجي إلى الشارع، واستعادة ذاكرة العمل السياسي النضالي للجماهير العربية، مثلما يفعل أصحاب التيارات الدينية أو الإسلام السياسي.

وسأجتهد من جانبي في الكشف عن أسباب هذه الفجوة، وهي في تصوري خمسة أسباب، قابلة للحذف والإضافة والتعديل والتطوير والتقويم:

أولا: هناك اختلالات بنيوية داخلية في خريطة التيار الليبرالي في المجتمعات العربية، رغم تفاوت الخبرات التاريخية والسياقات المحلية بين المغرب والجزائر ومصر ولبنان والكويت والبحرين، حيث ينحصر الصراع على السلطة غالبا بين نخب الحكم السياسية والمعارضة الدينية، فضلا عن هيمنة مختلف الإثنيات العرقية والقبائلية والدينية على الفضاء العام. إلى جانب ضعف التقاليد السياسية والديموقراطية، وهشاشة النخب القيادية وغياب الرؤية، وحدة الصراعات الداخلية، وضعف تقاليد الحوار والجدل الخصب، والتقوقع حول الذات، وافتقاد التيار الليبرالي للنزعة التوافقية مع مختلف القوى والتيارات الأخرى.

فقد فشلت الأحزاب الليبرالية في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى اليوم، في بناء توافق سياسي ديموقراطي بين أحزاب المعارضة السياسية المختلفة يمكنها - باعتبارها صاحبة قضية ورؤية ومنهج ومشروع تنويري- من الجمع بين قدراتها المحدودة وقدرات الآخرين، في عمل مشترك يسعى لتغيير البنية السياسية والاجتماعية في المجتمع العربي ونشر الثقافة الليبرالية. وهو ما أثبتته الانتخابات التي أجريت في أكثر من بلد عربي، والتي لا تكاد الأحزاب الليبرالية تحقّق فيها شيئا يذكر.

ثانيا: هناك مشكلة تاريخية ومعرفية بالنسبة لليبرالية بشكل عام لم تحل إلى اليوم، فالهجوم على الليبرالية في عالمنا العربي يحمل طابعا أخلاقيا عادة، وهي تهمة مزدوجة في الوعي الشعبي، فمن الناحية التاريخية ترتبط الليبرالية بالعلمانية المعادية للدين، وجغرافيا ترتبط بالغرب والاستعمار والهيمنة الأجنبية. ونادرا ما تذكر أجهزة الإعلام والثقافة ومؤسسات التعليم في العالم العربي: أن الفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، ومنظومة الحريات والحقوق الإنسانية، وحركات التحرر والاستقلال في العالم الحديث، والعالم العربي بصفة خاصة.

أضف إلى ذلك أن رواد الليبرالية العربية لم يتكيفوا مع التقاليد العربية، فأصبح من السهل تشويه المفاهيم الليبرالية، وربطها بالانحلال والتبعية للغرب والرأسمالية المتوحشة، في بيئة محافظة عانت من الاستعمار طويلا وفقيرة في الغالب، مما يستوجب على الليبراليين تأكيد الأبعاد الوطنية في مواقفهم وسياساتهم، خصوصا قضية العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة أو إنتاجها، والإصرار على وجود شبكة أمان اجتماعي -مع انفتاح الدول على اقتصاد السوق- تحمي الطبقات الفقيرة أو المهمّشة، وتحفظ أو تعيد إنتاج الطبقة الوسطى.

إن محاربة الفساد المالي والسياسي والمحسوبية، واحترام سيادة القانون، ومبدأ تكافؤ الفرص وتأكيد قيم المساواة والمواطنة، هي أحد أهم أهداف الليبرالية على مر العصور.

ثالثا: للدين دور مؤثر في حياتنا، وتقديم رؤية مستنيرة للدين لا يتم بمعاداة الإسلاميين والمتدينين؛ لأن الليبرالية تعني حق الناس في الاختيار واحترام حرية التفكير والتعبير وإعلاء قيم التسامح واحترام الآخرين ونبذ التعصب أو احتكار الحق والصواب، خصوصا أن هناك علاقة تاريخية وثقافية بين الليبرالية والإصلاح الديني، حتى داخل النسق الفكري الأوروبي الحديث، ومن خلال إعادة قراءة الدين وتأويله بزغت الفردية والحرية والتعددية والتنوير والعقلانية والتسامح.

أضف إلى ذلك الحالة المعرفية والثقافية المتردية للمواطن العربي مما كان عليه قبل قرن من الزمان، وهي حالة لا تسمح بالتجاوب مع المفاهيم الليبرالية المجردة، بينما الشارع العربي يريد شعارات عامة وفضفاضة تختزل الواقع ولا تقدم رؤية لهذا الواقع. يريد خطابا شعبويا بسيطا، والمشكلة هي كيف يمكن إعادة إنتاج المفاهيم الليبرالية بشكل جديد.

رابعا: أدى تقوقع الليبراليين داخل المنتديات ومنظمات المجتمع المدني وخلف الصحف والمجلات، واختيارهم إما تحالف الحد الأدنى مع النظم الحاكمة للحفاظ على وجودهم في الحياة السياسية، أو انسحابهم إلى المساحة المدنية الفاصلة بين الدولة ومؤسساتها وبين المواطنين، إلى وصمها بطابع نخبوي متعالي، حرمها من التأييد الشعبي.

خامسا: لم تتم الاستفادة حتى الآن من الآفاق والفرص التي أتاحتها التحولات التاريخية الأخيرة، فإذا كانت العولمة قد عممت الظاهرة الدينية وضخمت منها، فإنها أيضا وفرت ظواهر جديدة مثل هيمنة أنماط الحياة الغربية، وشيوع ثقافة الاستهلاك والمحاكاة، وازدياد حدة الفقر والفساد والتهميش الاجتماعي بصورة غير مسبوقة. وتحمل مثل هذه الظواهر فرصا لتطور حركات وأحزاب سياسية ليبرالية، لها مساحة من التأييد الشعبي، استنادا إما إلى الدفاع الليبرالي عن الحريات الشخصية والمدنية في مقابل منطق المنع والانغلاق الديني، والتأكيد على العدالة الاجتماعية وحماية المهمّشين، في مقابل تخلي النخب الحاكمة عن الفقراء والمهمشين، ومحاباة الطبقة الجديدة من الأثرياء ورجال الأعمال والمناطق المحظوظة من البلاد.

وأخيرا، إن ما ذكرته ليس إلا فاتحة شهية للحوار الذي سيثري حتما بالنقاش، وأختم بعبارة جرامشي الشهيرة: «تشاؤم العقل لا يقابله إلا تفاؤل الإرادة»، وهذا التفاؤل هو مفتاح سر تجدد الليبرالية على الدوام.

إقرأ أيضا لـ "عصام عبدالله اسكندر"

العدد 2422 - الخميس 23 أبريل 2009م الموافق 27 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً