تعب أصدقاء الفلسطينيين من عرب وغيرهم، من أصداء النصح للامتناع عما يقوم به بعضهم بالعبث في قضية العصر، القضية الفلسطينية. لقد جرى نهر من الحبر، كما يجرى نهر من الدم في هذا الصدد، والعقل غائب، والحكمة مؤجلة، فلا أسوأ من يد تقبض على بندقية من دون فكر يرشدها. آخر أخبار غزة، بعد أن شهدت سحب المستوطنين، أن قتل موسى عرفات عنوة في بيته، كما شهدت غزة انفجارا اختلف في تقدير أسبابه، والقادم من صراع فلسطيني/ فلسطيني يخيف العاقل، ويقلق الحكيم. والفلسطينيون جميعا يغرقون أكثر وأكثر في مستنقع ردود الفعل، وينحسر مع الأسف عن قضيتهم غطاء التعاطف والتفهم الدولي، في خضم الحرب على الإرهاب. حتى هذا الاحتفال الفلسطيني وبعض العربي بسبب الانسحاب الإسرائيلي غير مبرر، فبعد ثمانية وثلاثين عاما من الاحتلال يبدو هذا "الانسحاب" لصالح "إسرائيل" أكثر بكثير منه لصالح الفلسطينيين. فلم تعد بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة ذات قيمة اقتصادية أو استراتيجية لـ "إسرائيل". ربما ستجعل من حركة الفلسطينيين في داخل غزة نفسها حركة ممكنة نسبيا، ولكنها ستعجل من الاستنفار بين القوى الفلسطينية المتصارعة للحصول على بعض المكتسبات الصغيرة للقوى في الشريط الضيق، ولكن الانسحاب الإسرائيلي سيحول غزة إلى سجن كبير، يتصارع فيه المختلفون. غزة ستكون معزولة عن العالم الخارجي، كما كانت دائما وأكثر. في الستينيات زرت غزة مع وفد طلابي، كانت وقتها تحت الإدارة المصرية، وكان حال إخوتنا هناك في مرحلة آدمية متدنية، إلى درجة أن بعضنا لم يستطع أن يمنع دمعة حارقة سالت على الخدود ونحن نزور أحد مدارس القطاع. جميعا نعرف أن هؤلاء لا حول لهم ولا قوة، فقد أجلوا بقوة السلاح والتهديد من أرضهم في الداخل إلى أرض معزولة وأصبحوا لاجئين في بلادهم. حقيقة الأمر أن غزة هي نتاج مباشر لحطام الفلسطينيين بعد العام ،1948 معظم سكانها من أصول أولئك الناس الذين طردوا من ديارهم في الداخل. ومن المفارقات أن معظم سكان المستعمرات الإسرائيلية في غزة الذين تركوها أخيرا، سيستوطنون من جديد ذلك الساحل الممتد إلى جنوب مدينة يافا، التي جاء منها معظم سكان غزة أصلا. ولا توجد اليوم قرية فلسطينية قائمة في ذلك الساحل الطويل، كلها دمرت، كما دمرت آلاف القرى، وظهرت مكانها أسماء جديدة، ونمط جديد من الحياة. ستعوض الحكومة الإسرائيلية كل مستوطن "شرعي" في مستوطنات غزة السابقة بثلاثمئة وخمسين ألف دولار "ثمن منزل مستقل متوسط الحجم في ضواحي واشنطن"، وخمسمئة دولار تعويضا عن إيجار شهري لمكانه المختار، لمدة سنتين! في الوقت الذي لم يفكر أحد في أي تعويض للفلسطينيين، في أي وقت ومن أي مكان هجروا إليه، خصوصا ذلك المليون فلسطيني الذين أصابتهم نكبة .1948 حتى المناطق التي تركها الإسرائيليون في غزة سيتسلمها الفلسطينيون قاعا صفصفا، لا بناء فيها ولا شجر. المستوطن الإسرائيلي في غزة كان يحصل على كمية من المياه تعادل خمس مرات ما يحصل عليه الفلسطيني في غزة، وعلى مساحة أرض تبلغ سبعمئة مرة على ما يتوفر للفلسطيني في قطاعه، وذلك أبشع ما يمكن أن يحدث لشعب. الاتفاق السلمي الذي يسمى اتفاق "أوسلو" حرم الفلسطينيين من جملة من الحقوق، منها اتصالهم ببعضهم بعضا، فقد تم تقسيم غزة إلى أربع "مقاطعات" تتخللها طرق إسرائيلية، مرصعة بمراكز مراقبة وتفتيش، تفتح في أوقات غير منتظمة يقررها الإسرائيليون كيف ومتى ما شاءوا. صحافي بريطاني يصف عذاب الانتقال للمواطن الفلسطيني كالآتي: "ان أراد طفل فلسطيني الذهاب إلى المدرسة من مدينة غزة إلى رفح القريبة، عليه أن يبدأ المشي إلى المدرسة عند الساعة الثالثة صباحا، حتى يرجو أن يصل إلى مدرسته في موعد الدرس الأول، ومن ثم عليه أن يبدأ العودة إلى بيته الساعة الرابعة بعد الظهر، عله يصل بيته في منتصف الليل". وهل نحن بحاجة لهذا الوصف وشاشات التلفزيون العربية والأجنبية تنقل لنا بصور حية هذا العذاب اليومي؟ سيارات الإسعاف كثيرا ما توقف عند نقاط التفتيش لساعات. منذ العام 2000 فقط حوالي ثمانين فلسطينيا فقدوا حياتهم بسبب هذا التوقف القسري، وكانوا في حاجة للعلاج. وبحسب تقارير الأمم المتحدة لاحصاءات السكان، فإن ستة وخمسين مولودا فلسطينيا ولدوا في نقاط التفتيش الإسرائيلية، بين نهاية العام 2000 وصيف ،2003 نصفهم تقريبا ولدوا موتى، كما توفيت تسع عشرة امرأة على شفا الوضع في هذه النقاط، بسبب نقص وتأخر الإسعاف، وذلك لشكوك إسرائيلية غير مبررة. ليس من المؤمل أن يحدث الانسحاب الإسرائيلي من غزة أو شمال الضفة الغربية أي تحسن في وضع الفلسطينيين، فتقارير البنك الدولي التي نشرت في أكثر من دراسة تقول إن الوضع الاقتصادي يزداد تدهورا، فبين العام 2000 إلى العام 2005 تناقص دخل الفرد الفلسطيني بحوالي الثلث، وان حوالي نصف الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر "دولاران في اليوم فقط"، وفي غزة الوضع أسوأ من ذلك. فتوقع قرب حدوث كارثة اقتصادية، لم يعد بالمقدور تفاديها، هو ما تؤكده تقارير المؤسسات الدولية. قبل اتفاقات أوسلو كان يمكن للفلسطيني أن يتنقل بين الضفة الغربية وغزة، ويعمل بعضهم في "إسرائيل"، كانت "إسرائيل" تشغل هذه اليد العاملة الرخيصة، وتستفيد من سوق الأرض المحتلة لتصريف منتجاتها، اليوم فقط عدد قليل من الفلسطينيين يسمح لهم أن يعملوا في الداخل الإسرائيلي، حتى أصبح العاطلون عن العمل يصلون في بعض النسب إلى ثلاثين في المئة من القوة العاملة، ما يعني استقطابا أكبر للقوى السياسية في صفوف هؤلاء العاطلين وزيادة الإحباط في نفوسهم. معركة الفلسطينيين في هذه المرحلة هي معركة سياسية، تتلخص في فتح المعابر لانتشال الاقتصاد من الهوة المنتظرة، وفي الوصول إلى تفاهم لحقن الدم الفلسطيني بين القوى المتصارعة، والقول بأن الانسحاب من غزة هو "بداية النهاية للاحتلال" أو "هو انتصار للبندقية"، هو قول في حده الأدنى مضلل وفي سقفه سياسي، فالانسحاب من غزة يمكن "إسرائيل" من تنفيذ "خطة آلون الموضوعة العام 1967" والقائلة باغتصاب أرض خصبة ومناطق مياه من الضفة الغربية، وإرجاع الباقي أما للأردن وقتها، أو لحكم فلسطيني محلي. تلك الفلسفة لها من يبررها اليوم عن طريق إرغام الفلسطينيين أما على الاقتتال بين بعضهم بعضا أو النزوح "الطوعي". هذه الفلسفة تحتاج إلى أن يعمل الفلسطينيون عقولهم كي يدحضوها، لا أن يفتحوا نيران بنادقهم على بعضهم للبحث عن منتصر وخاسر. فإن حدث هذا، فإن القضية ستستمر في النفق المظلم الطويل. * كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1103 - الإثنين 12 سبتمبر 2005م الموافق 08 شعبان 1426هـ