إن المذابح كلها تبدأ بفكرة متطرفة في عقل شخص حقود. كل حوادث القتل وسفك الدماء تبدأ من الجماجم الفارغة. وكل المجازر في التاريخ انطلقت من قلوب أعماها التعصب والجنون. اقرأوا سيرة من تشاءون، بدءا من أتيلا والحجاج والسفاح وهولاكو وانتهاء بهتلر وشارون وجورج بوش. كل هؤلاء الجبابرة كانوا يؤمنون بأن الحياة خلقها الله لهم وحدهم، ولا وجود لشيء اسمه "الآخر". مختلف النظريات العنصرية ستجدونها فرخت في أحضان هؤلاء الحمقى: من نظرية "شعب الله المختار" إلى "تفوق الجنس الآري" إلى "من ليس معنا فهو ضدنا"... وهكذا يتوالد المفسدون. جميع الجرائم التي ارتكبوها كانت تبدأ بانحراف في الفكر، ينعكس على لغة الخطاب، فيخرج خطابا متشنجا متعاليا فيه كل غرور الدنيا. كلهم كانوا يعانون من هذا المرض، وكلهم سقطوا في هذه الخطيئة التي تبدأ بتسقيط الآخر وتنتهي بالمجازر والذبح على الهوية واستسهال اراقة الدماء. في لبنان أيضا... هل تعرفون سر بلائه؟ بلد كان قطعة من أوروبا، وموئل الفكر والديمقراطية، لكنه تورط في حرب أهلية قذرة دامت خمسة عشر عاما، أحرقت الأخضر واليابس، فسقط فريسة للاحتلال لمدة 22 عاما، وأصبح ملعبا لكل أجهزة المخابرات في العالم، ولما أراد الانعتاق من هذه اللعبة أخذ يدفع الثمن دما في أزمنة السلم كما ترون. اقرأوا ما كتبه اللبنانيون، اقرأوا سيرهم الذاتية بالذات، لتكتشفوا كيف تنتحر الأوطان حين تستسهل اللعب بنار الفتنة الطائفية. هل ثمة حاجة إلى الاستشهاد بما كتبه طلال سلمان أو سمير قصير أو كريم بقرادوني... أو غيرهم؟ فاللبنانيون خير شهود على ما تؤول إليه الفتنة من عواقب قاتلة. من هنا، إذا كنا نحذر ونكرر تحذيرنا من بعض الكتابات الملغومة، فانما نحذر من عواقب الفتنة التي تلوح في الأفق في ظل صمت مريب. فليس من مصلحة هذا البلد أن يترك نائب من أي جنس كان، ليتلاعب بأعصاب الوطن، ويريد إقحام ما تسالمت عليه الأجيال المتعاقبة، بدعوى ان هذا الأمر أو ذاك لم يرد في قرآن أو سنة، ولو طبق هذه القاعدة على نفسه أولا، لكان الصدق والشرف والمروءة كلها تستدعي أن يتخلى عن كرسيه في البرلمان حالا، لأن البرلمان لم يرد في قرآن ولا سنة. أفق ضيق، وفكر محدود، واقتراحات متهافتة تنم عن فراغ عقلي شديد. يورط نفسه بين فترة وأخرى في معارك وهمية مع طواحين الهواء، كما كان يفعل البطل الخرافي "العظيم" دون كيشوت: يرى مجموعة من الأغنام السارحة فيتخيل انها جيش من الجنود المسحورين، ويرى الطواحين فيتوهم أنها قلاع للأعداء، ويرى الأشجار فيعتقد انها جحافل من الغزاة! نحن في البحرين لسنا بحاجة إلى لغة التحريض ضد الآخر، فكلنا أبناء وطن واحد، ومثل هذه اللغة ما بدأت في بلد إلا انتهت بسيادة النظريات العنصرية التي تقوم على الإقصاء والإبادة واستباحة الدماء. ديننا وأخلاقنا وما ورثه لنا آباؤنا وأجدادنا لا يسمح بتمرير مثل هذه اللغة أو السكوت عليها لأنها لغة مدمرة، سواء كانت من نائب "غير إصلاحي"، أو كاتب مازال يعيش نفسيا في أجواء "أمن الدولة" وعقده، أو محام تقلص طموحه إلى كرسي صغير. في البحرين نتمنى أن يستوعب البعض أننا أبناء وطن واحد، وأن ليس هناك "ناس فوق" و"ناس تحت"، وان التمييز سياسة مرفوضة مهما طال الزمن، وإذا كنا ورثناها فيما ورثنا من سيئات الماضي، فالجميل بالبحرين أن تتخلى عنها في المستقبل، فـ "من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" كما في الحديث الشريف. في البحرين نتمنى أن يصبح من المسلمات، أننا لا نعيش عصر "الطوائف"، ونتلكم بلغة الأكثرية والأقلية، وانما نحن في وطن يعيش فيه أبناؤه متساوين، يحكمه القانون ويسوده العدل، أو هكذا يجب أن يكون. الخطاب المتشنج المليء بمفردات "الطائفة" و"الجماعة" و"القبيلة"، لن يخرج الوطن من مشكلاته الطويلة وأزماته العريضة، بل سيزيدها تأزما... لأنه ببساطة خطاب طائفي بامتياز. البحرين بحاجة إلى خطاب عقلاني متوازن، يغلب مصلحة الوطن، ولا يلعب على الوتر الطائفي، طلبا لزيادة مبيعات صحيفة، أو رفعا لأسهم نائب عاجز عن تحقيق شيء لناخبيه. في ظل لعبة باتت مكشوفة، تستهدف "إشغال" الناس وإلهاءهم عن قضاياهم الكبرى، وما يهدد مستقبل أولادهم، بالتورط في مهاترات عن المواكب والمسيرات. فليس التدافع الاجتماعي سببه المواكب، وانما سببه من يملك ويريد الاستحواذ على الكعكة كلها، ولا يريد من يشاركه حتى في الفتات. هذه هي المشكلة، باختصار.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1103 - الإثنين 12 سبتمبر 2005م الموافق 08 شعبان 1426هـ