في الذكرى الرابعة لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 انكشفت الولايات المتحدة امام العالم في وضع متناقض. فمن جهة هناك سلبيات داخلية ظهرت في لحظة غضب الطبيعة. ومن جهة هناك "عناصر ايجابية" اكتسبتها من خلال تجربة قوتها العسكرية في الخارج. هذا التجاذب بين الضغطين الداخلي والخارجي كشف عوامل الضعف في لحظة تريد واشنطن تأكيد جبروتها في التعامل مع من تسميهم اعداء "الحرية"، و"الديمقراطية" و"النموذج الجديد". نمو عناصر الضعف في وقت واحد مع بقاء عوامل القوة ليس هو المسألة. فمثل هذه الحالات المتناقضة مرت بها سابقا الكثير من القوى العظمى في التاريخ القديم والحديث. حتى الدول الاسلامية في العصرين الاموي والعباسي شهدت حالات مماثلة اذ كانت تعاني من ازمات داخلية في لحظات القوة "الفتوحات" الخارجية. وهذه المسألة بحثها الكثير من المؤرخين والفلاسفة وتوصل بعضهم إلى صوغ قوانين تتحدث عن آليات الصعود والهبوط. واتفق الكثير من الباحثين على أن مسألة القوة العسكرية لا تعني دائما ان الدولة قوية في كل مفاصلها ومواقعها. فالمؤرخ/ الباحث الأميركي بول كينيدي اكد في كتابه عن "صعود القوى العظمى وسقوطها" وجود صلة بين نمو القوة العسكرية وسقوط الدولة. فالدولة برأيه تنهار حين تتضخم قواها العسكرية في وقت تعجز ماليتها ومواردها عن تغطية تلك النفقات فيحصل ما يشبه الانفكاك "التشقق" بين القوة التي تبحث عن الحروب والتوسع لتغذية "عضلاتها" وبين الدولة العاجزة عن تلبية حاجات القوة وشروطها. هذه المسألة عالجها الكثير من الباحثين وهناك ما يشبه الاتفاق على ان قانون النمو والتطور يحمل في داخله آليات التمدد وثم الانهيار. فالتمدد العسكري وانتشار القوات في الخارج وانشغال الدولة بحروبها ضد خصومها يساعد على نمو عناصر ضعفها الداخلي. وتتسرع وتيرة الانهيار حين تتسع الهوة بين تضخم "تورم" القوة وتخلخل الاسس الاقتصادية "المالية" للدولة. هذا التناقض بين القوة والضعف انكشف اخيرا بعد اعصار "كاترينا". فالإعصار أطلق سلسلة انذارات مبكرة تشير إلى وجود نوع من التفكك في البناء الاجتماعي الداخلي وأظهر الولايات المتحدة دولة ضعيفة غير قادرة على احتواء ازماتها الاهلية. المسألة إذا أعقد من "الصعود والهبوط" أو "التمدد والتفكك". فهذا الأمر حصل في بريطانيا مثلا وحافظت الدولة على وجودها وشكلها السياسي. وحصل ايضا في فرنسا ونجحت الدولة في الاحتفاظ بحدودها السياسية وخريطتها القومية. الا أن هذا الامر لم يحصل في الاتحاد السوفياتي إذ حين انهارت الدولة "القوية عسكريا والضعيفة داخليا" سقط الاتحاد كله وتفككت دوله وتشرذمت. وايضا حصل المثال السوفياتي ابان مرحلة السلطنة العثمانية حين تفككت السلطنة وتوزعت ولاياتها إلى دول ودويلات متشرذمة واحيانا متقاتلة... وحتى الآن لاتزال دول السلطنة تبحث عن هوية جامعة ومشتركة. التجاذب بين الايجابيات والسلبيات الذي انكشف في الولايات المتحدة قبل اسبوعين من موعد الذكرى الرابعة لهجمات سبتمبر أظهر وجود خلل بنيوي يطاول الشبكة الاهلية للعلاقات الداخلية. وهذا يعني ان مشكلة اميركا في المستقبل تتجاوز كثيرا حدود تلك الآليات التي تتحدث عن عناصر القوة العسكرية والضعف الاقتصادي وما سيتبعها من سقوط بعد صعود. فالمسألة أصعب وأعقد وربما أخذت وقتا أكثر من المعتاد الا أن مظاهر الضعف تشبه كثيرا تلك المشاهد التي مر بها الاتحاد السوفياتي وقبله السلطنة العثمانية. فالولايات المتحدة لن تهبط درجة درجة كما حصل الامر مع بريطانيا وفرنسا بل المرجح ان تسقط وتنهار وتتفكك كما كان أمر الاتحاد السوفياتي والسلطنة العثمانية. الذكرى الرابعة كانت مناسبة لتكرار مشهد انهيار البرجين في نيويورك وإعادته في صورة اعصار اغرق مدينة بلحظات. واللحظات في منطق التاريخ ولغته الزمنية ربما تأخذ سنوات طوال وربما تكون تلك السنوات قصيرة زمنيا. والله أعلم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1103 - الإثنين 12 سبتمبر 2005م الموافق 08 شعبان 1426هـ