كل بلد تزوره تتعلم منه شيئا، وربما تنقل عنه أشياء، وليس مثل السفر طريقا للتعرف على البلدان، إذ تتعلم مباشرة من مخالطة الناس، وقراءة الوجوه، وتتلقى معلوماتك مباشرة من هنا وهناك.
صحافة متنوعة
يهولك هذا العدد الكبير من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية المتنوعة. يوميا تجد نفسك أمام عدد كبير من الصحف، وأمام الاكشاك المنتشرة في الشوارع الرئيسية لكبريات المدن، من مشهد إلى طهران واصفهان، تجد الإيرانيين يقفون طويلا أمام الصحف المعروضة على الأرض، أو المعلقة على الحبال، ليقرأوا ويقارنوا بين مانشيتات الصحف. عدد كبير من الأسماء، وتنوع كبير في المانشيتات، يستدعي وقوفا يطول صباح كل يوم، أو حتى عند العودة من الأعمال في المساء. كثير من هذه الصحف صدرت في العهد الاصلاحي، إذ خففت القيود وبدأت الكثير من التيارات التعبير عن نفسها. وإذا سافرت إلى إيران، وكنت ممن يدمنون الصحف العربية، فعليك أن تقلع عن عادتك حتى تعود، وتقبل بما تيسر من مطبوعات محدودة باللغة العربية مما يصدر هناك. الخيارات أمامك محدودة جدا، أولها "الوفاق"، وهي تصدر ستة أيام في الأسبوع عدا الجمعة كما قيل، لأنه يوم عطلة. وهي صحيفة متواضعة في إمكاناتها وتغطيتها العربية والدولية، لا يزيد عدد صفحاتها عن ،16 ومع ذلك تحاول أن تفرد مساحة لا بأس بها للقارئ العربي، فتخصص صفحتين أو أكثر، لمناقشة الآراء والقضايا العربية، وكثيرا ما تنقل عن الصحف الأخرى، ومن ذلك مقال للزميل محمد عبدالله عن زيارة الجعفري لطهران في منتصف يوليو/ تموز الماضي. المجلات المعروضة أيضا، تجدها متنوعة الاهتمامات، بين العلوم والصحة والفنون... ولكن غالبيتها تستأثر بأخبار الفن والسينما والنجوم، ثم ثقافة الأسرة والطفل والتربية. أسماء متشابهة ومتقاربة، في مجالين يكثر التنافس فيهما. وهو بطبيعة الحال يعكس جانبا من جوانب الطلب الاجتماعي، فلولا وجود طلب كثيف على هذه المجالات، لما صدر هذا العدد الكبير ليسيطر على الساحة. في المرتبة الثالثة ستكتشف وجود مجلات علمية متخصصة، كتلك التي تهتم بالفلك وعلوم الفضاء، وحتى الميكانيكا والسيارات. وطبعا مثل هذه النوعية الجادة من المجلات لها جمهورها وإن كان قليلا. يلفتك أيضا وجود صحف "إقليمية" في كل إقليم أو محافظة، يغطي أخبارها وفعالياتها. بعض هذه المطبوعات يوزع مجانا، ، فيما تغطي الإعلانات المنشورة كلفتها وزيادة بطبيعة الحال. ففي مشهد توزع اسبوعية "شهرآرا" على جميع المنازل والمتاجر مجانا، والتي احتفلت الشهر الماضي بمرور عامين على صدورها.
التلفزيون والسينما
إحدى القنوات التي تكشف جانبا من جوانب البلد الذي تزوره، التلفزيون الرسمي. ففي إيران هناك الكثير من القنوات، بعضها اخبارية مثل "خبر"، وبعضها عامة تذيع المسلسلات والأفلام المدبلجة والمنوعات وتغطي الفعاليات الاجتماعية والرياضية والدينية وغيرها. في كل مساء يتم عرض فيلم أو مسلسل إيراني، ومعروف ان الفيلم الإيراني الجاد استطاع حصد عدد من الجوائز في المهرجانات السينمائية الدولية. هذه الأفلام والمسلسلات ليست بعيدة عن الناس، سواء ما يتناول منها فترات تاريخية، أو مشكلات اجتماعية كقضايا السكن والمخدرات وتأخر سن الزواج وما شابه.
مولد الإمام علي
فيما كنت أتهيأ للسفر من اصفهان إلى طهران مرورا إلى مشهد، صادف ذكرى مولد الإمام علي "ع". كان طريق المطار مزينا باللافتات والزينات. فيما كان التلفزيون يبث منذ ثلاثة أيام أناشيد اسلامية وتواشيح دينية تتغنى ببطولة "وليد الكعبة" و"سيد الموحدين". في الطريق سألت السائق وصلنا طهران عند منتصف الليل، وكانت بعض حسينيات طهران مازالت ساهرة إحياء للمناسبة. وفي الصباح كانت أكبر الصحف تتنافس في إبراز المناسبة بصورة أو بأخرى، بعضها تنشر لوحات خطية أو رسومات جميلة في مكان بارز على صدر صفحتها الأولى، فيما خصصت بعض الصحف صفحات داخلية، احتوت مقالات ودراسات، أحدها مثلاكان يتحدث عن "تأثير نهج البلاغة على الأدب الفارسي"، وهو الكتاب التاريخي الذي يحوي مجموعة مهمة من خطب وكلمات الامام علي ورسائله إلى ولاته على الأقاليم.
الملف النووي الإيراني
ولأن طهران كانت معبرا سريعا، غادرناها عصر اليوم الثاني، إلا انني حرصت على زيارة مكان واحد فيها: "السفارة الأميركية". أخذني السائق إلى محيط السفارة، الذي يقع قريبا من جامعة طهران حيث تقام صلاة الجمعة، وكان إمام الجمعة يومها المرشد العام للجمهورية السيدخامنئي، لأنه يصادف ذكرى دينية مميزة. وكان الزحام يومها شديدا، لحرص الكثيرين على سماع خطاب "المرشد"، خصوصا أنه أول خطاب بعد انتخاب الرئيس الجديد هاشمي نجاد، وبدء التحرك على تشكيل الوزارة، فضلا عن "التسخين" الحاصل يومها في قضية الملف النووي الإيراني، خصوصا أن الرئيس الأميركي بوش أطلق تصريحا استفزازيا أغضب الإيرانيين جميعا. وعلى ذكر الملف النووي الإيراني، يلاحظ المراقب مدى ما يحتله هذا الملف من اجماع وطني، فلم تعد مسألة "طاقة" مفيدة لإيران، بل أصبحت مسألة كرامة وطنية لا يمكن المساومة عليها، وبات الكثير من الإيرانيين ينظرون إلى الموقف الغربي من الملف على انه "تحرش سافر" ببلادهم، فيشعرون بضرورة مواجهته مهما كلف الأمر. وهي نبرة تحد من المتوقع أن يزداد ارتفاعها مع تولي أحمدي نجاد مسئولياته الرئاسية.
زيارة إلى السفارة الأميركية
نعود إلى محيط السفارة الأميركية، التي كانت في مطلع الثمانينات مركزا يجتذب المظاهرات في أوج اندفاعة الثورة وحماسها. كانت الوفود من داخل إيران وخارجها تحج إلى "وكر التجسس" لتعلن غضبها على "الشيطان الأكبر". عندما أفلتت السيارة من الزحام الذي يمسك بخناق العاصمة أغلب أوقات النهار، واقتربت من مبنى السفارة، كان الشارع هادئا، وحركة السيارات سلسة. لم يكن هناك متظاهرون ولا لافتات. كل ما بقي من تلك الفترة شعارات ثورية وكلمات للامام الراحل، ورسومات على جدران السفارة، أحدها يمثل تمثال الحرية وقد تحول وجهه إلى جمجمة فارغة. كنت أتخيل المبنى ضخما جدا بسبب ما قرأته عنه وعن دوره في التحكم في إيران لأكثر من ثلاثين عاما، وهي الفترة التي شهدت غلبة الأميركان في صراع النفوذ ضد البريطانيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما تلاها في عقد الخمسينات. حين سألت عن المبنى، قيل انه تحول إلى كلية عليا لتخريج ضباط حرس الثورة. دارت السيارة حول المبنى ليعرفني السائق الإيراني على النادي المجاور من الجهة الخلفية. كان خطة إنقاذ الرهائن الأميركيين في السفارة تقضي بنزول قوات الكوماندوز الأميركية الخاصة في صحراء "طبس" شرقي إيران، بالقرب من الحدود الباكستانية، ومن هناك تنطلق بالتواطؤ مع ضباط في الجيش الإيراني من الموالين للشاه، لتهبط في هذا النادي، ومن هناك تتحرك باتجاه انقاذ الرهائن إذ لا تبعد السفارة غير مئات قليلة من الامتار. كانت إيران نائمة في تلك الليلة، وحراس السفارة كذلك، وكان الرئيس الأميركي جيمي كارتر يراهن على ننججاحه في إنقاذ الرهائن ليعاد انتخابه. وقضى الله ان تصطدم طائرتان أميركيتان وتحترقان، ويموت عدد من الجنود احتراقا أيضا فتتفحم جثثهم. في تلك اللحظة كان كارتر يشاهد مسرحية، فتلقى اتصالا عاجلا يخبره بحادث الاصطدام. الصحف الأميركية في اليوم التالي قالت انه بكى مع سماع الخبر، وأمر بسحب ما تبقى من جنود وطائرات. وفي اليوم التالي، سمع الإيرانيون، كما سمعت الشعوب الأخرى، بخبر فشل العملية الأميركية ضد بلادهم من وسائل الإعلام، وظهر الإمام الخميني على التلفزيون ليخاطب شعبه بقوله: "حتى لو كانت إيران كلها نائمة، فإن الله سيحميها". وربط الإيرانيون ما حدث في صحراء طبس بما حدث "عام الفيل". فهناك أرسل الله على الأحباش الغزاة طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، وهنا أرسل الله غبارا على الطائرات الغازية أفقدتهم الرؤية فاصطدمت منهم طائراتهم، وتفحم بعض جنودهم كعصف مأكول. أزمة الرهائن هذه لم تطح بهيبة الأميركيين وتثبت لهم عجزهم في تلك الفترة المبكرة من تورطهم في الخليج فحسب، وانما أطاحت بحكومة بازركان أيضا، أول حكومة "شعبية" بعد الثورة، بل أول حكومة شعبية بعد أكثر من سبعين عاما من الاستبداد، لأنها وجدت نفسها تصطدم بـ "الطلبة السائرين على نهج الامام" كما أصبحوا يسمون. وبررت الحكومة استقالتها بأنهم أصبحوا "دولة داخل الدولة"، وحسم الخميني الصراع بدعمه للطلبة الذين اعتبرهم أبناء الثورة فسقطت حكومة بازركان. اليوم، السفارة هادئة، ليس أمامها مظاهرات ولا متظاهرون كما كان قبل خمسة وعشرين عاما. كل ما بقي من تلك الفترة الساخنة كلمات للامام الخميني، ولوحات جدارية تفضح سياسات "الشيطان الأكبر"، وتمثال الحرية الذي أصبح مجرد جمجمة على جدار... و"تلك الأيام نداولها لقوم يعلمون".
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1102 - الأحد 11 سبتمبر 2005م الموافق 07 شعبان 1426هـ