لماذا تظل هذه الساحة موعودة ومنذورة للصدمات والصدامات؟ تقرأ قصيدة لشاعر لم تصافحه، ولم تلتقه ولو بمحض المصادفة، ولكنك تظل منحازا للقصيدة، ولا تتردد في أن تقدمها الى الناس بما يليق بقيمتها، من دون أن تنتظر شكرا منه، لأنه جزء من دورك، أن تقدم الجمال، أو ما يدل عليه الى الناس،وأصدق الكتابات، تلك التي تصدر عن شخص تجاه كتابة لم يلتق مع صاحبها، ولم تلوث الحياة وما يعترك فيها، المساحة الإنسانية لكل منهما، فتخرج حارة،طازجة،مليئة بالعفوية والصدق. ولكنك تفاجأ بعد زمن وكأن الشاعر نفسه يستفزك ويستدرجك لكي تنكص أو ترتد على عقبيك، لتخرج على الناس بكتابة على النقيض مما آمنت به، وسطرته كتابة، ولكنك لا تنجر الى ذلك الاستفزاز والاستدراج، وكثيرا ما ينطلق ذلك الاستفزاز والاستدراج من نوايا مبيتة لا تخلو من خبثها، ولأنك لست ابن اليوم وخبرت الحياة، تظل مؤمنا بما كتبت ومصرا على قناعاتك تجاهه، اذ ان اختلاف أحدهم معك، ونزوله الى درجات سفلى من قلة الأدب في الحوار والجوار معا، لا يبرران على الإطلاق أن تعلي من شاعر اليوم، وتسقطه من حساباتك غدا، لمجرد أنه أساء الأدب معك، اذ لا يتم التعامل والتعاطي مع أمانة الكلمة ومسئوليتها بهذا المستوى من المزاجية، لأن الكلمة موقف، فيما المزاج على النقيض، والذين صنعوا وراكموا الجميل والنافع في الحياة، هم أصحاب المواقف، ولم نسمع يوما أن من بين من صنعوها وراكموها، صاحب هوى أو مزاج، يثبتك في الليل، ويخلعك في النهار! ولفرط ما مررت به من صدمات، أصبح ذلك الصنف من البشر بمثابة اختبار اضافي لمدى حصانتك من الصدمات التي قد يعتقدون أنهم سيسببونها لك، بحيث لا تعود تعير ما يصدر عنهم أي اهتمام، ما لم يتجاوز الحد الذي يمكن لبشريتك أن تتحمله وبسعة صدر. وتظل تسأل وبكل براءة: ما الذي يكسبه الإنسان حين يربح مساحة الشعر، ويخسر مساحة انسانيته... حين يخسر الإنسان في داخله؟ ولماذا يصر ذلك الصنف من الشعراء على مسألة الفصل تلك؟ الفصل بين انسانية النص، وانسانية الشاعر؟ وهل هما - بالنسبة اليه - على هذا المستوى من النفور والتضاد بحيث لا يلتقيان؟. ينشر الشاعر نفسه قصيدة أخرى بعد مرحلة اعتقاده أنه مرر الصدمة اليك، وبعد ما صدر عنه من اساءات، وتظل تسأل: هل سأستطيع قراءتها بنفس المنظار والحس والنفس الذي قرأت به قصيدته الأولى، قبل أن يكشف عن معدنه؟ هل سأتعامل مع النص بكل حيادية متناسيا - ولو بشكل مؤقت - كل ما حدث؟. نعم أستطيع ذلك طالما انني مازلت محصنا من حال المزاج والتذبذب، وما دمت مؤمنا بأن الذي يسهم في عمار الحياة هو الموقف لا المزاج، وسيظل نصه الثاني جميلا، ورائعا، ورصينا، وممتعا، طالما انه تجاوز به نصه الأول، ولو بقدر ضئيل في مفردة، أو صورة، أو استعارة، ولن تبخسه حقه، ولن ترسله الى جحيم وببطاقة ذهاب - من دون عودة - الى جحيم تلقي فيه من تسخط عليهم.ولكن من حقك أن تحتفظ برأيك ورؤيتك لنفسك، ولست مطالبا بأن تكون المتحدث الرسمي باسم نصوصه، وهو حق لا يختلف معك فيه عاقل، ولن يرى أحد في إحجامك عن الكتابة عن نصه الجديد أي ضير أو طعن في صدقيتك وحياديتك. مثل أولئك البشر موجودون بين ظهرانينا، ولا نصطنع ونلفق حضورهم لملء مساحة عمود، أو لإضفاء مساحة من حماس أو اثارة في مجلس مسائي يؤمه زملاء في الإكتئاب، هم بيننا يتنفسون ذات الهواء، ويقطعون الإشارة الحمراء بعد الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل، ويرتادون المجمعات التجارية في عطلة نهاية الأسبوع، ويدمنون المقاهي الشعبية، وفي حال وردهم اتصال من احدى ضحاياهم لن يترددوا في الكذب بأنهم في "ستار بكس"، لزوم الوجاهة!. وذلك الصنف من البشر، كثيرا ما تخدمهم الظروف، في غفلة من الوقت، اذ تقيض لهم فرصة أن يكونوا معنيين بتلقي نصوص الآخرين، والتعامل معها كما يفترض بأي مهني. فأن لا تحب أرييل شارون، فذلك لا يعني أن تهمل ما تتناقله الأنباء من ممارساته ومجازره، أو حضوره لكنيس، أو حين يتعثر في مزرعته في النقب فيصاب بالشلل - آمين - فإرهابيته لا تعني أن تسقط حضوره، أو ذكر اسمه أو فعله في صحيفتك، لمجرد أنه الإرهابي الأول في العالم، ذلك هو شارون، فما بالك بشعراء قادتهم ظروفهم التعسة لأن تكون نواياهم بيضاء، ناصعة بحيث لا يتوجسون منك ريبة، - خصوصا أولئك الذين لم يتعاملوا معك - ولا يداخلهم شك في انك لن تستغل ما أتيح لك من منبر في التشهير بهم، والإساءة اليهم، فتحول منبرك الى جبهة حرب مفتوحة... وعلى من؟ على شعراء وكتاب من بلادك، لا لسبب سوى أن تشبع نهم الغرور لديك، وتصفية حسابات وهمية، بحيث يتحول تسويقك للفتن في هذه الساحة هو الشغل الشاغل لمنبرك، ليس لأنك لم تأت بما لم يأت به الأولون والآخرون، بل لأنك تجرأت وتواقحت وتجاوزت المتفق على عدم تجاوزه - ضمن العرف الأخلاقي والإنساني - من تلك الحدود. أو تظن أنك أقوى من الدول، تلك التي بادت لفرط سكرة الغرور، وما ينتج عنه من تجاوزات ومظالم؟ اذا ظننت ذلك فأنا أول الضامنين لمنبرك أن يعمر حتى العام 3005 للميلاد! ويحق لي أن أستأنف أسئلة صادرها الإسترسال في واحد من واقع حال الساحة الشعرية الشعبية في المملكة: هل يكفي أن تكون علاقاتك على ما يرام - لأهداف في نفسك - مع معدي الصفحات فقط، فيما أنت تمطر الذين بهم تصدر الصفحات من شعراء وكتاب، بوابل من جهلك وسلاطة لسانك، وسكرة غرورك، واستوائك على منبرك؟. وأختم بصوغ آخر لسؤال سابق: هل تربح الشعر حين تخسر انسانيتك؟.أهمس في أذنك: جهنم لم تمتلئ، فلا تفتح أبوابها عليك
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1100 - الجمعة 09 سبتمبر 2005م الموافق 05 شعبان 1426هـ