كان أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني آخر زعيم دولة زار جمهورية ألمانيا الاتحادية قبل نهاية ولاية الرئيس الألماني السابق رومان هيرتسوغ. وحين وصل الأمير العاصمة برلين التقى في إطار المشاورات التي عقدها مع ممثلي الأحزاب الممثلة بالبرلمان الألماني الاتحادي "بوندستاغ" بممثل عن الحزب الليبرالي المعارض اسمه فولفغانغ غيرهاردت، إذ تبادلا الآراء بشأن عدد من القضايا الدولية ولاسيما الوضع في الشرق الأوسط. كان قد حصل تغيير حكومي في ألمانيا وأقصى الاشتراكيون والخضر المستشار المحافظ هيلموت كول عن السلطة وجاء المستشار غيرهارد شرودر ونائبه ووزير الخارجية يوشكا فيشر. كانت هذه آخر مرة برز فيها اسم غيرهاردت في وسائل الإعلام العربية فمنذ ذلك الوقت لم يبرز اسم هذا السياسي الألماني وعلى رغم أنه يشغل منصب المتحدث باسم الحزب الليبرالي عن قضايا السياسة الخارجية فإن قلة في العالم يعرفونه. لكن هذا قد يتغير بعد تاريخ الثامن عشر من سبتمبر/ أيلول المقبل عقب الانتخابات المبكرة في ألمانيا وفي حال فاز المحافظون ونصبوا مرشحتهم أنجيلا ميركل مستشارة فإن الحزب الليبرالي الذي عقد العزم على مشاطرة المحافظين السلطة كما فعل في العهد الطويل "16 سنة" للمستشار السابق كول، يريد منذ اليوم الحصول على حقيبة وزارة الخارجية. أبرز وزراء الخارجية الألمان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس ألمانيا الاتحادية كانوا ينتمون للحزب الليبرالي: فالتر شيل وهانز ديتريش جينشر وكلاوس كينكل. يذكر أن أنجيلا ميركل ضمت في "فريق الخبراء" فولفغانغ شويبلي في منصب وزير خارجية حكومة الظل غير أن هذا ممكن فقط إذا فاز المحافظون بالغالبية الساحقة وهذا صعب جدا. زار غيرهاردت لندن وباريس ليتعرف على وزيري الخارجية البريطاني والفرنسي وقال إنه يريد في منصبه الجديد التركيز على توطيد العلاقات مع بريطانيا وفرنسا ومع الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي. في مقال نشرته مجلة "إنترناسيونالي بوليتيك" التي تصدر عن الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية كتب غيرهاردت يقول: الدول التي تنعم بالحرية ملزمة بمساعدة الدول التي ليس فيها حريات وألمانيا تتحمل هذا الواجب ضمن مزيد من الواجبات الدولية حتى بعد مرور 15 سنة على استعادتها وحدتها. كما ينبغي عدم التنكر لهذه الواجبات والتخلي عن تحفظنا بحيث يصبح التعاون الأطلسي والدفاع عن حقوق الإنسان والتعددية الفعالة من أبرز علامات السياسة الخارجية الألمانية. أوساط عربية مطلعة في الساحة الألمانية وشخصيات ألمانية طالما عبروا عن أسفهم لتحيز يوشكا الذي ينتمي لحزب الخضر للجانب الإسرائيلي خصوصا الجانب الفلسطيني الذي كان يأمل أن يحصل على مساعدة فعالة من فيشر الذي كان في شبابه على علاقة وثيقة بعدد من الفلسطينيين حين كان "ثوريا" ثم انقلب على رفاق الطريق وكان وزير الخارجية الألماني الوحيد الذي يشيد به الإسرائيليون حتى اليوم. هذه الأوساط ترحب اليوم باحتمال تسلم غيرهاردت البالغ 62 عاما من العمر منصب وزير الخارجية إذا رضيت ميركل بالتنازل لهذه الوزارة لصالح الحزب الليبرالي ثمنا على ولائه للاتحاد المسيحي المعارض. وتظهر آخر نتائج عمليات استطلاع الرأي أنه على رغم التقدم الحاصل على شعبية الاشتراكيين إلا أن الاتحاد المسيحي والحزب الليبرالي مازالا يتقدمان بالنقاط على منافسيهما في السلطة وبالتالي زيادة احتمال فوز ميركل بالمستشارية وتشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الليبرالي. إذا هناك من يتوقع تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الألمانية فإنه على خطأ. إذ سجل المراقبون باهتمام كيف أن غيرهاردت نادرا ما انتقد السياسة الخارجية الألمانية خلال السنوات السبع الماضية التي هي عمر حكومة الائتلاف الاشتراكي الأخضر. في كثير من القضايا الدولية كان المستشار شرودر هو الذي يدير الدفة وليس وزير الخارجية فيشر. أبرز مثال على ذلك رفضه حرب العراق ثم رفضه أخيرا التفكير بشن حملة عسكرية ضد إيران. وكان موقف ألمانيا تجاه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد أن أحاطت الدبابات الإسرائيلية بمقره في رام الله غير موفق كذلك التزامها الصمت على جرائم التصفية التي تمارسها "إسرائيل" فيما لم يوفر فيشر كلمة تعنيف واحدة للفلسطينيين بعد كل عملية انتحارية تقع في "إسرائيل". ومنذ هجوم الحادي عشر من سبتمبر العام 2001 على الولايات المتحدة تبنى فيشر فكرة أخرى عن العرب والمسلمين متأثرة كثيرا برأي اللوبي الإسرائيلي وهذا ينطبق أيضا على زميله أوتو شيلي وزير الداخلية. شكا سفراء عرب كثيرا من أن فيشر لا يأخذهم على محمل الجد ويمنحهم الشعور أنه مكرها يوافق على الاجتماع بهم. بنظر غيرهاردت المولود في ولاية هيسن العام 1943 توفي والده الجندي قبل وقت قصير على نهاية الحرب العالمية الثانية ونشأ في مزرعة صغيرة قبل انصرافه لدراسة السياسة والأدب الألماني، فإن الإرهاب الدولي يظل في الوقت الحالي أهم مشروع مشترك بين الأوروبيين والولايات المتحدة لما يشكله هذا الإرهاب من تهديد للعالم الغربي برمته. وكتب في مجلة "إنترناسيونالي بوليتيك" يقول إن تفجيرات لندن التي وقعت في يوليو/ تموز الماضي أوضحت أن الإرهاب لا يستهدف الولايات المتحدة فقط بل العالم الحر بأكمله. حذر غيرهاردت أيضا من مغبة حصول الإرهابيين على أسلحة الدمار الشامل في الوقت نفسه حذر المجتمعات الغربية من المبالغة في التصدي للإرهاب من خلال الانغلاق على نفسها والتخلي عن مبادئ الحرية والتسامح التي هي من أبرز سمات العالم الحر. مضى غيرهاردت يقول إن الغرب ملتزم بعملية التحديث في كثير من الدول الإسلامية وأن الكثير من المثقفين الناقدين وممثلي الشركات في العالم الإسلامي على أتم الاستعداد لشن هجوم سياسي ضد القوى المتطرفة في بلدانهم. يرى غيرهاردت بذلك خطوة مهمة جدا لأنه لا يمكن فرض التحديث على العرب والمسلمين من الخارج فالتغيير بحسب رأيه ينبغي أن يأتي من الداخل. لا يمكن حسم المعركة ضد الإرهاب من دون التوصل إلى حل سلمي لنزاع الشرق الأوسط. لكن كغيره من الذين شغلوا منصب وزير الخارجية في الحكومة الألمانية فإن غيرهاردت أكد في مقاله أن مسئولية ألمانيا تجاه "إسرائيل" ستظل قائمة في ظل حكومة جديدة في برلين وقال إن الانتخابات الديمقراطية التي تمت في المناطق الفلسطينية وتنفيذ خطة انسحاب "إسرائيل" من غزة تنعش الآمال بإحياء عملية السلام. ويرى غيرهاردت الاعتراف المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتوقف أعمال العنف والاستجابة وتحقيق مطالب الفلسطينيين وخصوصا حصولهم على دولة مستقلة أبرز أسس الحل المنشود وكتب يقول إن الحل ينبغي أن يصدر عن طرفي النزاع وأنه ليس بوسع المجموعة الدولية أكثر من تقديم المساعدة كما طالب غيرهاردت أن تتخلى الولايات المتحدة الأميركية عن العمل بسياسة توحي أنها منحازة لصالح "إسرائيل" وان تتخلى أوروبا عن سياستها التي توحي أنها منحازة لصالح الفلسطينيين ودعا السياسي الليبرالي الولايات المتحدة وأوروبا إلى التعاون سوية في سياسة تقود إلى تقدم معتبرا عدم وجود بديل لحل التعايش السلمي لدولتين متجاورتين: فلسطين و"إسرائيل". بالنسبة إلى العراق يرى غيرهاردت على رغم الانتقادات الموجهة لغزو العراق فإن تحقيق الأمن والاستقرار في هذا البلد يصب في مصلحة العالم الغربي الذي لا يستطيع تحمل نتائج الفشل في العراق الذي قال إنه اليوم ضمن مناطق حلف شمال الأطلسي وقد يصبح في المستقبل جارا للاتحاد الأوروبي إذا انضمت تركيا للمجموعة الأوروبية في المستقبل. ينبغي برأيه على دول الاتحاد الأوروبي وألمانيا التي عارضت الحرب المساهمة في إعادة تعمير العراق والإسهام كي ينهض على قدميه والمجالات التي عرضها غيرهاردت ليتم التعاون فيها: بناء مؤسسات القانون والشرطة ومرافق الصحة من دون حاجة لإرسال قوات. أما بخصوص الخلاف النووي القائم مع إيران فقد دعا غيرهاردت إيران إلى التراجع عن خططها النووية ودعا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى التعاون معا في مواجهة هذا الخلاف شرط أن يكون الهدف وضع حل مرض لكل أطراف الخلاف. أوضح غيرهاردت أنه ينبغي عدم فرض عزلة دائمة على إيران الغنية بالنفط وأيضا بالحضارات وقال إنه ينبغي حصول الجمهورية الإسلامية على فرصة لتطور نفسها. يرى غيرهاردت أنه على الغرب أن يثبت صدقيته عند السعي لحل النزاعات إذا أراد التغلب حقا على الإرهاب وان يعير أهمية كبيرة للدفاع عن حقوق الإنسان في كل مكان. قال غيرهاردت إن ألمانيا لم تعير أهمية في السنوات السبع الماضية لحقوق الإنسان في الشيشان وروسيا وفي إفريقيا. اتهم غيرهاردت حكومة المستشار شرودر بتجاهل حقوق الإنسان حين خدمت لأغراض الاقتصاد. وقال إن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش يتجاهل خرق حقوق الإنسان في شبه الجزيرة العربية ليحمي المصالح الاقتصادية لبلاده وهذا ما يسمى بسياسة المكيالين. شكا غيرهاردت من التردي الخطير لحقوق الإنسان في الشيشان وقال إنه ينبغي انتقاد السياسة الروسية في الشيشان وفي الوقت نفسه التأكيد للكرملين أن ألمانيا مهتمة بالتعاون مع روسيا لكنها تجد بعض العراقيل في طريق علاقة ناجحة أبرزها الحرب المستمرة في الشيشان والرقابة على الصحافة وعدم توفر نظام قضائي منصف. سيكون إصلاح العلاقات مع واشنطن من أبرز سمات السياسة الخارجية الألمانية في ظل حكومة جديدة ومعالجة موضوع طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي لكن غيرهاردت يؤكد أنه في ظل حكومة جديدة لن تكون هناك تغييرات جذرية في السياسة الخارجية التي عملت بها حكومة المستشار شرودر وستتمسك حكومة أنجيلا ميركل أيضا بقرار شرودر عدم إرسال جنود ألمان إلى العراق.
العدد 1099 - الخميس 08 سبتمبر 2005م الموافق 04 شعبان 1426هـ