ما هو المرجو من استذكار التاريخ وتحليل وقائعه كما عاصر ورأى تلك الحوادث أحد المشاركين فيها أو الشاهدين عليها؟. .. لعل هذا هو واحد من الأسئلة التي ترددت في ذهني كثيرا قبل أن ابدأ سلسلة عن عقد الثمانينات من القرن الماضي. وكنت عندما بدأت الكتابة في بادئ الأمر قد تركت الأمر مفتوحا بحثا عن اجابة على السؤال اعلاه. وعندما وجدت ان هناك استقبالا حسنا من القراء واصلت الكتابة في بعض جوانب تلك الفترة الحرجة. السؤال عاد ليطرح نفسه وانا احاول التطرق إلى "مطلع التسعينات"... فهل الهدف هو تسجيل موقف؟ أم ان هناك هدفا اسمى من ذلك؟ ان كان الهدف تسجيل المواقف فإن فترة التسعينات أكثر فترة موثقة والمرء المشارك فيها لا يحتاج إلى إعادة توثيق، لأن الباحث يستطيع مراجعة شبكة الانترنت، أو الكتب والتقارير والمجلات والصحف التي تناولت الفترة، وباستطاعته أن يستخرج منها المعلومات ويحدد وجهة نظره منها. الاجابة ليست مكتملة بالنسبة إلي، ولكن بصورة أولية فإنني اعتقد أن الهدف الأسمى هو المساهمة في تعزيز العمل الوطني نحو التوافق والتضامن ومد الجسور على اسس ومبادئ إنسانية من أجل بحرين تجمع كل أهل البحرين من دون تفريق على اساس مذهبي أو اثني أو قبلي أو اي تفريق آخر. من أجل هذا الهدف الاسمى، يمكن ان يتطرق المرء إلى فترة التسعينات. وهذا يعني ايضا أنني قد اتوقف عن الكتابة فيما لو قدرت أن هناك احتمال ان يتأثر الهدف المذكور. فلكي تتجاوز الأمم الأخطاء فإن عليها ان تستفيد من تجاربها بحلوها ومرها، وهذا هو مفهوم "تراكم الخبرات" الذي يدفع هذه الامة أو تلك نحو مزيد من التقدم من أجل بناء وطنها الذي يحتضن الجميع.
مطلع التسعينات
مع توديع العقد الثمانيني من القرن الماضي وبدء التسعينات انتقلت المجموعة اللندنية البحرينية إلى مرحلة أخرى مختلفة عن الماضي، كما ان الوضع البحريني الداخلي بدأ يتغير لعدة اسباب. نبدأ من لندن... فكما كان الحديث في حلقة سابقة، فإن المجموعة اللندنية تعرضت لحادثة في مايو / أيار 1990 غيرت مجرى نشاطها، وذلك عندما اعتقلت المخابرات البريطانية ثلاثة من افرادها وفتشت منازلهم وحققت معهم، ثم افرجت عنهم بعد ان اكتشفت ان المجموعة ليس لديها ما يخالف قوانين بريطانيا. وعلى اثر ذلك قررت المجموعة ان تتحرك بأسماء افرادها علانية وأن تطرح وجهات نظرها بجرأة أكبر. المخابرات البريطانية اعتقلت في العملية ذاتها ثلاثة كويتيين أيضا، على رغم ان المجموعتين كانتا قد افترقتا في هذه الفترة، ولكن تاريخهما كان مشتركا، ولذلك فإن مجموع من تم اعتقالهم في مايو 1990 كان ستة اشخاص، ثلاثة بحرينيين وثلاثة كويتيين. اثنان من الكويتيين تم تسفيرهما من لندن ليس لثبوت اي شيء ضدهما، ولكن لأن أحدهما كانت إقامته ليست صالحة والثاني لأنه حول التحقيق معه إلى جلسات للملاسنة والصراخ على المحققين، بل وحتى إلى تبادل التهديدات. وكان ذلك سببا لأن ينتقم منه المحققون ويقومون بتسفيره بحجة ان ما قاله يمثل "تهديدا للأمن". بعد هذه الفترة بقليل بدأ عدد البحرينيين المهاجرين إلى بريطانيا يزداد، وتكونت جالية صغيرة لها متطلباتها وظروفها المعيشية كما هو شأن الجاليات الأخرى. في الوقت ذاته، ازدادت خبرة المجموعة البحرينية في عدد من المجالات الاستراتيجية المتعلقة بالوضع البحريني. فبالاضافة إلى ارشيف الوثائق والكتب والمعلومات، أصبح لدى المجموعة قاعدة معلومات وعناوين عن أهم الشخصيات والمؤسسات الإعلامية والدولية والحقوقية التي يمكن الاتصال بها وإيصال وجهات النظر والمعلومات إليها. عدد من الناشطين أيضا أصبحوا في مواقع مؤثرة بسبب اختصاصاتهم المهنية أو توجهاتهم، ووجدت المجموعة وسائل كثيرة للتأثير على الأوساط المهمة، من منظمات دولية إلى مؤسسات بحثية متخصصة إلى برلمانات، إلى مجموعات العمل الحقوقية التابعة للأمم المتحدة، الخ. وبعد فترة، أصبحت المجموعة مصدرا يلجأ إليه من يهتم بمنطقة الخليج عموما، وبالبحرين خصوصا.
بعد تحرير الكويت
مع نهاية العام 1990 انقلب الوضع السياسي في الخليج بعد غزو الكويت، ومن ثم استنجاد دول الخليج بالاميركان والحلفاء لتحرير الكويت. القوات الاميركية والحلفاء يحررون الكويت في مطلع العام ،1991 والرئيس الاميركي يعلن عن بداية "نظام عالمي جديد". رئيس الوزراء البريطاني جون مايجور يتحدث عن ضرورة افساح المجال للديمقراطية وحرية التعبير في منطقة الخليج لمنع تكرار ما حدث في الكويت... وباختصار، فإن الجميع بدأ يتنفس في اجواء سياسية جديدة محاطة بتوقعات بأن "موجة الديمقراطية" قد وصلت أخيرا إلى العالم العربي. الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي انتهت عمليا في ،1992 وبدأ عصر الفضائيات، ما يعني ان سيطرة الحكومات على المعلومات وطرق انتقالها قد انتهى. في هذه الفترة ازدادت الحاجة إلى المعلومات عن دول الخليج باللغة الانجليزية، وكانت المجموعة اللندنية مؤهلة لأن تلعب دورها في هذا المجال بعد ان كانت قد طورت امكاناتها البشرية والفنية. كانت بداية التسعينات فرصة لطرح مطالب سياسية واضحة من دون غموض. وقد استفادت المجموعة اللندنية من تجربة الثمانينات، ولذلك فقد حرصت على مد الجسور مع اليساريين والعلمانيين، كما حرصت على "دستورية" المطالب، وعلى "بحرنة" العمل السياسي من خلال إبعاد المؤثرات الخارجية التي كانت تدفع بالاجندة في الثمانينات نحو اتجاهات لا تمثل القواسم المشتركة للشعب البحريني.
العريضة النخبوية العام 1992
في الداخل، تسلم الشيخ عبدالأمير الجمري قيادة الشارع السياسي الشيعي بعد سفر الشيخ عيسى أحمد قاسم إلى قم المقدسة لمواصلة التحصيل الديني. والشيخ الجمري له علاقاته الواسعة على جميع الاتجاهات، كما انه كان يرفض غلق مجلسه وأصر على ابقاء علاقاته مع الجميع في احلك الظروف. وعليه، فقد كان الشيخ الجمري يتعامل بانفتاحية لم تتوقعها الاتجاهات الأخرى التي فوجئ بعضها بتصدره للعريضة الدستورية النخبوية في نوفمبر / تشرين الثاني .1992 فتلك العريضة كانت بداية لتوافق وطني بشأن مطالب عادلة ودستورية تؤكد شرعية الحكم من جانب وتطرح القضايا التي كانت متداولة في كل البحرين. السلطة من جانبها، تجاهلت العريضة النخبوية وتم الإعلان عن تعيين مجلس للشورى، وهذا كان دون المطالب التي اجتمع عليها الطيف السياسي البحريني بمختلف ألوانه. العريضة النخبوية أصبحت الوثيقة الأساسية للتنسيق بين جماعات المعارضة في العواصم التي توجد فيها، وعلى اساس ذلك بدأت هذه الجماعات بإصدار بيانات مشتركة اجتمع فيها اليساريون العلمانيون مع الإسلاميين. الحكومة من جانبها، استمرت في تجاهل هذه المطالب، وحاولت تقديم بعض البدائل. فبالاضافة إلى تعيين مجلس شورى، سمحت بعودة نحو خمسين شخصا من الذين ارتحلوا إلى قم المقدسة للدراسة في الثمانينات، وكان من بين الذين رجعوا الشيخ علي سلمان. وقبل سفر الشيخ عيسى قاسم إلى إيران أوكل صلاة الجماعة التي كان يؤمها في مسجد الخواجة إلى الشيخ علي سلمان، وهذا عزز من موقع الشيخ علي لدى الناس. عدد من رجال الدين الذين عادوا من قم المقدسة انضموا إلى النشاط الذي كان يقوده الشيخ الجمري من خلال العريضة النخبوية في العام ،1992 التي تم تطويرها لاحقا إلى عريضة شعبية في العام .1994
المعارضة في عصر العولمة
الوضع الاقتصادي كان يضغط على الاجواء السياسية، فمنذ منتصف الثمانينات بدأت البحرين تعاني من انخفاض دخل النفط، ولكن هذا الأمر ازداد سوءا من كثرة التركيز على الجوانب الأمنية وازدياد اعداد المعتقلين السياسيين. كما ان المهاجرين الذين حاولوا العودة إلى البحرين كانوا يسفرون لدى وصولهم إلى البلدان المجاورة، ما فاقم الاجواء السياسية سوءا. التفتت الحكومة إلى أن كل شخص يتم تسفيره، وكل شخص يتم اعتقاله يصبح معروفا لدى جميع المنظمات الحقوقية. ولكن بدلا من معالجة جذور المشكلة سعت إلى الاستعانة ببعض الشركات أو الاشخاص في لندن ضمن برنامج للعلاقات العامة. ولكن لم يكن هناك من سيتغلب على منطق المعارضة التي أصبح صوتها الأعلى. في البحرين انتشرت الهواتف العمومية آنذاك، بالاضافة إلى اجهزة الفاكس، وهذه وفرت وسائل سريعة للتواصل بين الداخل والخارج "قبل ان يبدأ عصر الانترنت لاحقا". سهولة التواصل بين الداخل والخارج أحدثت نقلة كبيرة في النشاط السياسي بعد أن كانت الحكومة تسيطر على الاتصالات في عقد الثمانينات. الاجهزة الأمنية لم تغير سياساتها واعتقدت ان القبضة الحديد هي الوسيلة الافضل لاحتواء التطورات السياسية التي كانت تتسارع. وقد بدا للمراقب من خارج البحرين ان الجهاز الأمني كان يقلل من شأن التحركات. ولذلك فقد فوجئ المعنيون بالوضع الأمني بأن هناك افواجا كبيرة من الشباب الذين لم يعودوا يخافون السجن. كما ان كثيرا من الشباب كانوا من أصحاب الكفاءات، وهذا يعني انهم اصبحوا وقودا جاهزا لحركة شعبية تقودها أجندة صاغتها النخبة الدينية والسياسية في داخل وخارج البلاد. الخطاب السياسي للمعارضة أصبح موحدا، وهذا مثل مصدر قوة للانطلاقة المطلبية الجديدة. ولقد كانت قوة الخطاب بمكان إذ إنها غطت على بعض الخطابات والشعارات التي انتشرت في فترة الثمانينات. ازادات حركة انتقال المعلومات مع ازدياد حركة السفر عبر الجسر إلى السعودية... فالشخص الذي يخشى من ارسال "فاكس" من داخل البحرين ما عليه الا ان يذهب إلى الجانب الآخر من جسر الملك فهد ويكتب ما لديه ويرسله إلى المعارضة في الخارج عبر الفاكس. المعارضة تقوم بإيصال المعلومات بسرعة جدا إلى وسائل الإعلام وإلى المنظمات الحقوقية. هذه السرعة ازدادت لاحقا مع بدء استخدام الهواتف النقالة... المعارضة تنتقل بسرعة إلى عصر العولمة، بينما اجهزة الأمن مازالت تعتمد على الاساليب التقليدية التي لم تعد تجدي نفعا مع ما أطلق عليه لاحقا "حرب الفاكسات". وكالات الانباء العالمية التي ت
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1099 - الخميس 08 سبتمبر 2005م الموافق 04 شعبان 1426هـ