يتجول الزعيم غير الرسمي لحزب الخضر يوشكا فيشر هذه الأيام في باص يحمل صورته. البعض يصفها جولة الوداع لأن عمليات استطلاع الرأي تستبعد فوز الائتلاف الاشتراكي الأخضر الذي يقوده المستشار غيرهارد شرودر ونائبه ووزير الخارجية فيشر بولاية ثالثة حين يتوجه الناخبون الألمان بتاريخ 17 سبتمبر/ أيلول الجاري إلى صناديق الاقتراع. السؤال: من سيخلف فيشر في وزارة الخارجية؟ هل فولفغانغ شويبلي السياسي المقعد الذي اختارته أنجيلا ميركل منافسة شرودر على المستشارية في فريقها الانتخابي ورشحته لمنصب وزير الخارجية أن فولفغانغ غيرهاردت السياسي التابع للحزب الليبرالي؟ خسارة الانتخابات بالنسبة إلى فيشر سيكون لها نتائج مضاعفة. لن يخسر حزب الخضر المنافسة أمام منافسه الحزب الليبرالي فحسب بل لن يدخل فيشر كتب التاريخ كما كان أمل مستعينا بأطراف نزاع "الشرق الأوسط". ما بدا بعد مجيء الاشتراكيين والخضر للسلطة في بون في أكتوبر/ تشرين الأول 1998 كانفتاح للسياسة الخارجية الألمانية على الدول العربية، كشف لاحقا عن أن هذه السياسة قائمة على مواصلة انحياز ألمانيا لـ "إسرائيل" إن كان من خلال التوسط لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط أو من خلال دور ألمانيا في مفاوضات ثلاثي الاتحاد الأوروبي "بريطانيا وفرنسا وألمانيا" لهدف إقناع إيران بالتراجع عن خططها النووية رغبة أيضا في حماية أمن الدولة العبرية. في الشهر الماضي زار فيشر "إسرائيل" ورام الله وعاد ليعرب لمقربين منه عن تشاؤمه. بعد توليه منصبه في العام 1998 زار فيشر إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية أكثر من أي سياسي أوروبي آخر. لكن الحصيلة السياسية أكدت على نقطة واضحة وهي أن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع منافسة الولايات المتحدة في نزاع الشرق الأوسط ولا فرض حلول خاصة به بصورة واضحة فإن الاتحاد الأوروبي عاجز تماما عن فرض نفسه كوسيط نزيه في هذا النزاع. هذه الحقيقة لا تنطبق على دولة أوروبية بقدر ما تنطبق على ألمانيا التي جعلت أمن إسرائيل من ثوابت سياستها الخارجية. بعد وقت قصير على تسلمه منصبه طار فيشر إلى "إسرائيل" ليشارك في احتفال البحرية الإسرائيلية بتسلمها غواصتين من طراز الدلفين من أصل ثلاث صنعت في ألمانيا التي تحملت كلفها بقرار من حكومة المستشار السابق هيلموت كول. وطور مهندسون إسرائيليون فوهاتها ليجري إطلاق صواريخ مزودة برؤوس نووية من متنها. جاء احتجاج العرب وقتذاك متأخرا، إذ قالت حكومة شرودر إن حكومة كول هي التي أبرمت الصفقة. حصل العرب على دليل قاطع أن ألمانيا مستمرة بتحيزها لـ "إسرائيل" وأنه ليس بوسعها القيام بدور وساطة بسبب عقدة الذنب. يذكر أن ألمانيا كانت تتهرب من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وكان نشاطها محصورا في نطاق النشاطات التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي. ثم وقعت "إسرائيل" مع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو بعد مفاوضات سرية تمت في العاصمة النرويجية. غيرت ألمانيا سياستها تجاه منظمة التحرير بصورة جذرية ووجهت حكومة كول دعوة لياسر عرفات ليزور ألمانيا. بعد مجيء حكومة الائتلاف الاشتراكي الأخضر كان واضحا أنه بوسع ألمانيا المساعدة فقط إذا أسهمت واشنطن بصورة فعالة في عملية "السلام الشرق أوسطية". حاولت ألمانيا في الوقت نفسه توضيح رغبتها للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بأنها تريد علاقة ود معهما وظلت تحث على تنفيذ اتفاق أوسلو إلى أن أطلقت "إسرائيل" عليها رصاصة الرحمة. لم تكتف حكومة شرودر بالمطالبة بمساهمة أميركية فعالة، بل راحت تقول إن كل تدخل من الخارج عديم الفائدة إذا لم يسع أصحاب العلاقة أنفسهم وضع حل للنزاع المزمن والكشف عن حسن النوايا لاتخاذ خطوات حاسمة نحو بناء الثقة والعمل على قاعدة حل قيام دولتين متجاورتين. لأول مرة في تاريخ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي تقدمت ألمانيا بمبادرة استلهمت بنودها من خطة سلام سعودية ثم توقفت الجهود على اثر اندلاع الانتفاضة في سبتمبر 2000 التي أشعل نارها ارييل شارون بزيارته الاستفزازية إلى حرم المسجد الأقصى واستعادت المنطقة أجواء حرب الأيام الستة العام .1967 تابع فيشر جهود الوساطة ولم يجد تجاوبا يذكر من قبل الجانبين. في العام 2003 وضعت الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة مبادرة سلام سميت "خريطة الطريق" وشعر فيشر بفخر كبير لأن خطة سلام اللجنة الرباعية الدولية استقت نقاطها من مبادرة فيشر المقتبسة عن المبادرة السعودية. لم تلفت سياسة ألمانيا تجاه "الشرق الأوسط" اهتمام أحد. وبعد أن طلب شارون من الرئيس الأميركي جورج بوش فرض مقاطعة على ياسر عرفات امتثلت ألمانيا وأصبحت اتصالاتها مع السلطة الفلسطينية محدودة. ثم انضمت للذين طالبوا عرفات بتعيين رئيس للوزراء ليجري الحديث إليه عوضا عن الرئيس الفلسطيني المفروض عليه مقاطعة. اعترافا بموقفه تجاه "إسرائيل" حصل فيشر على شهادة من شارون بأنه أفضل وزير ألماني ساند "إسرائيل". هكذا طوى الإسرائيليون ملف سائق التاكسي والمشاغب السابق الذي وقف في شبابه في مؤتمر تضامني دولي في الجزائر ينتظر لفتة من عرفات أو فرصة لمصافحته. لكن ألمانيا اجتذبت اهتمام العالم من خلال موقفها تجاه غزو العراق العام ،2003 إذ رفض المستشار شرودر مشاركة بلاده في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة وساعدته بالفوز بولاية ثانية. لكن موقف شرودر نتج عنه أيضا توتر في العلاقات مع الولايات المتحدة. بعد نهاية الحرب غيرت ألمانيا موقفها بعض الشيء وقبلت بالواقع ومنذ عام لا تقوم بمهمات عسكرية مهمة في أفغانستان فحسب، بل تعمل على تدريب عناصر في جيش العراق وشرطته على أرض دولة الإمارات لأن شرودر لا يريد نكث الوعد الذي قطعه في الحملة الانتخابية العام 2002 بأنه لن يرسل عسكريين ألمان إلى العراق. في حال خسارة شرودر الانتخابات قد تغير حكومة تتزعمها المستشارة أنجيلا ميركل موقف برلين تجاه العراق وكما يشير المعلق في محطة "صوت ألمانيا" بيتر فيليب فإن القرارات التي تصدر بشأن العراق لا تشارك بها ألمانيا وهذا على المدى البعيد يضر بمصالحها الاقتصادية في العراق. كانت ألمانيا بين الدول الغربية التي سارعت في إيفاد سفير لها إلى بغداد وإعادة افتتاح سفارتها كما استقبلت رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي في برلين وأحبطت محاولة لاغتياله. لا تبحث ألمانيا منذ وقت عن طريق لتمكين الشركات الألمانية من الفوز بعقود، إذ من الصعب أن يتحقق ذلك في ظل الأوضاع الأمنية الصعبة في العراق وهيمنة الشركات الأميركية على المشروعات. لكن ألمانيا مرتبطة بعلاقات اقتصادية وثيقة جدا مع إيران، وهذه العلاقة تتعرض إلى تهديد بسبب استفحال الخلاف بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني. ووضع فيشر مع زميليه في بريطانيا وفرنسا خطة لدفع إيران للتراجع عن إنتاج اليورانيوم وبالتالي القيام بخطوة جديدة في الطريق نحو إنتاج القنبلة النووية. كما ينتهز الأوروبيون المفاوضات مع إيران كفرصة للإعراب لواشنطن أنه يمكن التوصل إلى حلول للنزاعات عبر المفاوضات بدلا من التدخل العسكري. حتى اليوم لم ينجح الأوروبيون في تقديم عرض يرضي إيران، ويعرفون أن إغضابها ستكون له نتائج وخيمة وخصوصا أن إيران زادت ثقتها بنفسها بعد انتخاب الرئيس الجديد محمود أحمدي نجاد. أما علاقات ألمانيا مع دول الخليج العربية، فقد اقتصرت في عهد حكومة شرودر على العقود الاقتصادية واحتلت مرتبة بارزة في اهتمامات ألمانيا وشجعت المستشار للقيام في نهاية فبراير/ شباط الماضي بجولة إلى سبعة بلدان خليجية خلال سبعة أيام بينها السعودية التي زارها مرتين في وقت قصير. كالعادة تم الحديث كثيرا عن مشروعات محتمل تنفيذها بالتعاون مع شركات ألمانية بينها بناء سكة للحديد بين دول الخليج لكن بعد عودة شرودر من جولته الخليجية إلى برلين عاد الهدوء إلى العلاقات العربية الألمانية.
العدد 1098 - الأربعاء 07 سبتمبر 2005م الموافق 03 شعبان 1426هـ