ما إن وطأ الإنسان الأرض حتى بدأت احتياجاته بالظهور، ومع تطوره تزايدت احتياجاته وتشعبت في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، وأصبحت المصالح الشخصية وما يتعلق بها العامل المؤثر والمحرك لنشاطه، والأساس الذي يعتمده في تكوين علاقاته ورسم أبعاد سلوكاته العامة والخاصة. هذا الحال الذي بدأ يأخذ مع استمرار تفاعله وتطوره على مر التاريخ أبعادا أكثر شمولية ومنهجية بحيث أصبح الصراع على الوجود والمصالح من أهم القضايا التي تشغل الفرد والفئات والجماعات، ومفهوم هذا الصراع يأخذ عدة أوجه منها مفهوم الصراع الذي تقوم به الدولة أو المجتمع للحفاظ على حياة أفراده وحماية مصالحهم باعتبارهم مجموعة واحدة متجانسة. وهناك مفهوم يأخذ وجها آخر ينحصر في الصراع بشكله المعلن أو المخفي الهادف إلى تحقيق مصالح خاصة، وهذه الأخيرة تكشف عن نفسها بشكل واضح عند قيام المجتمع بعملية الإنتاج لتأمين حاجاته الضرورية، ففي هذه المرحلة يترافق مع عملية الإنتاج التي يقوم بها المجتمع ظهور ثروة اجتماعية هائلة يصرفها المجتمع في مجالات مختلفة، الأمر الذي يدعو إلى سيلان لعاب فئة من الأشخاص رجحت مصالحها الشخصية على جميع المبادئ والاستحقاقات، فيكون السلوك انعكاسا طبيعيا لما يختلج في النفس من حب الذات والمصالح الشخصية، فباتت تشكل أحد أخطر الأمراض السياسية والاجتماعية ذات الآثار السلبية الخطيرة. فهؤلاء لم يستطيعوا أن يدركوا أنه لا وجود لهم بلا جماعة وبلا مجتمع متماسك يحميهم ويحفظ لهم تطلعاتهم، وعلى يديه تتحقق أمانيهم في الحياة الكريمة، وأن تلك المصالح كانت ستتحقق فيما لو لم يستعجل أصحابها تحقيقها بصورة فورية من خلال الالتفاف على كل القيم، الأمر الذي يجعل من هذه الفئات عقبة أمام مسيرة تطور الأمة ورقيها. لذلك، كان لابد من نظرة متعمقة لهذه الفئة التي تلاعبت بمقدرات الأمة، ونشرت ثقافتها في أوساط المجتمع، مع اعترافنا بقلة الدراسات التي واجهت هذه النوعية من البشر بشكل مباشر وصريح. وما نعنيه بهذه الفئة هي الانتهازية السياسية والتي أصبحت اليوم من أخطر الآفات التي تنخر في أوصال المجتمع، ومعولا هداما يعمل على القضاء على ما تبقى من القيم والمبادئ، ولاسيما أننا نلمس المبدأ الانتهازي في زماننا هذا أكثر من أي زمن مضى، وخصوصا بعد أن قنن ووضعت له الضوابط والأطر التي تجعل من لديه ميول خفية إن هو استجاب ولم يردعه دين أو قانون أو عرف. والانتهازية ليست مفهوما جديدا، بل هي أسلوب متبع منذ أن نشأت البشرية، ولها انعكاساتها السيئة على المجتمع كله، لأن الانتهازي يحطم صمود الأمة ويجعلها في بلبلة شديدة ويفقدها قدرة التمييز بين الحقيقة والزيف، بحيث تضيع المقاييس والمعايير فتتمزق من الداخل وتصبح كالأشلاء. فالانتهازية سلوك بشري لا يعرف السكون على حال معينة، بل يتلون بحسب مقتضيات المنفعة الذاتية بلا مبالاة للمسائل الاعتبارية، فالانتهازي شخص دؤوب في سعيه الحثيث لبلوغ موقع اجتماعي أو سياسي متقدم، وهدفه الأول والأخير تحقيق منفعة مادية صرفة ليس إلا، فالإنسان الإنتهازي يكون ثاقب النظر في تشخيص متطلبات المرحلة الجديدة ومتغيراتها الطارئة على شكل الحكم وطبيعة المجتمع، تجده يغير آراءه وأفكاره التي يؤمن بها، لأنه يعتبرها أصبحت بالية ولم تعد نافعة له، فالمبادئ الأخلاقية والتقاليد والأعراف لا قيمة لها في قاموسه، لذلك لا يتوانى عن تغييرها. ويصف البعض مثل هذا السلوك بالواقعية السياسية أو الاجتماعية في مجالات التعامل مع مجرياتهما، أما الذين ينادون بالمثالية وينشدون التمسك بالمبادئ والقواعد الأخلاقية وإن تعارضت مع المكاسب المادية ومنافعهم الشخصية، لأن للقيم الأخلاقية عندهم قيما عليا لا يفرطون بها بأي ثمن، فإنهم لا يوافقون على الوصف المذكور. والانتهازية في معناها اللغوي مشتقة من مادة "نهز" التي تعني اغتنم، والانتهاز هو المبادرة، ويقال انتهز الفرصة أي اغتنمها وبادر إليها، وهي في معناها الاصطلاحي أو السياسي لا تختلف كثيرا عن المعنى اللغوي المشار إليه، فالإنسان العاقل هو الذي يغتنم الفرص من أجل أهداف معينة. وهي تختلف باختلاف منطلقاتها، فقد تكون محدودة لا تخرج عن إطار المنفعية الذاتية قصيرة الأمد، أو أهدافا سامية ومثلا عليا يكافح الإنسان في سبيل تحقيقها، وعند ذلك يصبح استغلال مثل هذه الفرص المتاحة عملا مشروعا. أما الانتهازية كظاهرة في المجتمع فهي اتخاذ الإنسان لمواقف سياسية أو فكرية لا يؤمن بها في سبيل تحقيق مصالح فردية أو حماية مصالح شخصية، أملا في الحصول على مصلحته الخاصة والمحافظة عليها من دون أن يكون مؤمنا بالمواقف والأفكار التي يتخذها، أي أن الانتهازية تعني التضحية بالأهداف الاستراتيجية من أجل تحقيق أهداف مرحلية مؤقتة، وهذا ما نتلمسه ونستقرؤه من خلال وجود فئة تتصف بتلك الصفات من خلال المعطيات المتوافرة، ما يشكل خطرا كبيرا على مسيرة العمل السياسي في البحرين. أما المثقف الثوري فهو بعكس الانتهازي، إنسان مبدئي بطبعه ومبادئه وأفكاره، يتحمل كل شيء في سبيل مبدئه، شجاع وموضوعي، لا يبني حياته على شقاء الآخرين بل يضحي بسعادته ومعيشته اليومية في سبيل تحقيق الأهداف الاستراتيجية، يرى سعادته في سعادة الآخرين، يدرس الواقع كما هو. وبما أن الواقع يسير وفق قوانين موضوعية خارجة عن إرادة الإنسان ولكون الحقيقة تغير شكلها في كل مرحلة لذلك فهو في بحث دائم عن الحقيقة ليكشفها، لا يقبل الظلم، إنسان يبحث عن نقيضه، وهو يدرك تماما أنه إذا بطل القانون أو أوقف عن الفعل تحولت حياة الأمة إلى صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا شجر. ونظرا إلى ان المثقف يلعب دورا بالغ الخطورة في الحياة الاجتماعية، من هنا تأتى خطورة هذه المسألة وأهميتها "احتمال الخطأ والصواب فيها وارد"، فكلا المثقف الثوري والانتهازي يلعبان دورين مختلفين في وعي الناس، فهما يقومان بنقل الواقع إلى فكر الناس، وهذا يعني أن احتمال تشويه الواقع في وعي الناس وارد، بغية تحقيق منافع شخصية قد يكون المال سببها بالنسبة إلى الانتهازيين. فإذا برز المثقف الانتهازي وسيطر على الساحة الاجتماعية واستطاع أن يخدع السياسي بآرائه المشوهة للواقع، عندها ستقع المصيبة على المجتمع بأكمله، وبالتالي سيكون له دور في توجيه القرار المؤثر في المجتمع سواء في الواقع الاجتماعي أو استغلال الظروف الجديدة، لكن ذلك لا يعني أن الانتهازية كظاهرة مقتصرة فقط على الأحزاب الثورية وحسب، وإنما تعتبر ظاهرة اجتماعية بحد ذاتها، ويتم تشخيصها باعتبارها من الأمراض الفتاكة التي تصيب المجتمع، ومنها ما يحدث خلال آليات التجديد والتطوير فيه. حثني على إبداء هذه الملاحظات بشأن الموضوع، انتشار ظاهرة الانتهازية وظهور أعداد من اللاعبين الانتهازيين في مجال السياسة في فترة الانفتاح السياسي، ما يدعو إلى التفكير في سبل معالجة هذه الظاهرة المرضية الاجتماعية والسياسية الخطيرة، فلا يمكن ذلك باعتقادنا إلا بالتوعية والتركيز على المثل والقيم الإنسانية والأخلاقية في تربية النشء والحذر كل الحذر ممن يتصفون بالانتهازية
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1098 - الأربعاء 07 سبتمبر 2005م الموافق 03 شعبان 1426هـ