كان المشهد أمام مبنى وزارة الإسكان مختلف على غير العادة، رجال ونساء وأطفال معتصمون، يتجاذبون أطراف الحديث أحيانا بهدوء وتارة أخرى بالصراخ، ويتقاذفون مع الشرطة بالكلام وكأن بمقدور شرطي مكلف بضبط النظام أن يحل مشكلة من مشكلاتهم، فيما لم تجد مسئولا واحدا من وزارة الإسكان موجودا في المكان للتفاوض، أو ليقول كلمة تطمينية للمحروقين من أشعة الشمس ومن معاناتهم للحصول على مسكن لائق لهم ولأطفالهم بعد انتظار طويل. شدني مشهد "فضولي" لفتاة صغيرة في عمر الزهور تحمل قنينة ماء من الحجم الصغير بها القليل مما رشفته كانت تخاطب رجلا بعمر والدها قائلة: "عمو، خذ هذه واسكب هذا الماء على ذلك الشرطي ذي القامة الطويلة فقد نهرني عدة مرات!"، حاول الرجل إقناعها بلغة تبسيطية تفهمها قائلا: ابنتي، لو فعلتها قد يقولون اننا فوضويون ومخربون ومشاغبون لا مطالبين بالحقوق... قالت: إذا اسكبها على ذلك الرجل "أبو الثوب والغترة" إنه يعمل مع الشرطة ويمنع آباءنا من المراجعة لطلباتهم! حاول الرجل تنفيذ رغبات هذه الطفلة وتسلل بين المعتصمين وخاطب الرجل البحريني الذي تحيط به شرطة تنظيم الاعتصام: يا سيد، أحمل وصية من طفلة بريئة تبرعت بقطرات هذا الماء لأبلل ثيابك بها، هل تسمح لي بذلك؟! ماذا تقول... ؟ ثم ابتعد. أرجع الرجل قنينة الماء إلى تلك الطفلة بعد أن فشل في أداء المهمة لإرضاء فضولها وحنقها، وقال لها: خذيها، هي مني لك وردة وعلامة ونخلة تثمر بالعطاء؛ ودعا لها بطول العمر ويحفظها الله لوالديها وتحقيق مرادهما وتربيتها في بيت من الإسكان تتذكر عندما تكبر كل زاوية من زواياها، إنه سميع مجيب. تأملت منظر وزارة الإسكان فوجدتها "ثكنة عسكرية" محاطة بالشرطة من كل حدب وصوب من دون منفذ لمراجعة أصحاب الطلبات. سألت أحد أفراد الشرطة: كيف ندخل الوزارة للمراجعة؟ أشار بسبابته: من هناك إذ يعتصم المعتصمون. هنا شرطة رجالية وهناك شرطة رجالية ونسائية وكل الأبواب مقفلة، ووزارة الإسكان بطولها وعرضها وبطوابقها العشرة، وبمسئوليها من الطابق السفلي إلى طابق الوزير لا يوجد مسئول واحد يستطيع مخاطبة الناس ويشرح "سر" منعهم من المراجعة لطلباتهم، أو حتى يحدثهم بكلمات تضمينية يطمئنهم فيها على مصير طلباتهم؛ وسألت: ألا يوجد بالوزارة العتيدة مسئول يجيد الحديث؟ ألا يوجد بها مكتب للعلاقات العامة يجيد فن الكلام والإقناع؟ نسمع أن هناك وزيرا ووكلاء وزير ومديرين ومتخصصين و.... و.... فأين كل هؤلاء من بضعة مراجعين ليبعثوا "موظف بريد" يجلس على كرسي "صم بكم" عبر ممر لا يتسع لخطوات آدمي بحجم تلك الفتاة الصغيرة التي تبرعت للمراجعة عن والديها لعل هذا الرجل أو الشرطة ترأف بها ولبراءتها وتسمح لها بالدخول، بينما أبو "الثوب والغترة" وذلك الشرطي نهراها، فتبرعت بتبليلهما بالماء الذي من المفترض أن تحتفظ بقطراته ليروي ظمأها وسط حرارة الجو في صيف البحرين المعروف عند الفقراء الذين لا يملكون المال للهروب عنه إلى بلدان أخرى بها نسمة هواء باردة! بعد أن فشل الرجال في الدخول للمراجعة لطلبات ،1992 أي بعد انتظار 13 عاما من المعاناة، جربت النساء حظوظهن للعبور إلى مكاتب الوزارة لعلهم يعثرون على مسئول يسألونه عن طلباتهن، لكن الشرطة النسائية لهن بالمرصاد، ثم حاول الأطفال وكلهم فشلوا، وكأن حائط برلين الذي كان يفصل المانيا الشرقية بالغربية استوردته وزارة الأشغال والإسكان ليفصل بين المراجعين ومكاتب الإسكان المملوءة بالموظفين والمسئولين والمديرين. تصريحات المسئولين التي أثخنوا بها آذاننا حول "الأبواب المفتوحة"، وعن "الشفافية"، وعن "حق الوصول للمعلومات"، وما إلى ذلك قد سقطت في أول اختبار، وكأن المراجعين الغاضبين منهم يحاولون اقتحام "مكتب 905" في الطابق التاسع المحظور على موظفي الوزارة دخوله! دعونا نفهم، لأن فهمنا بطيء، إذا لم تسمحوا للمراجعين أن يخترقوا سور برلين، فلماذا لم تسمحوا للصحافيين التحقيق في ذلك وتمنعونهم من الدخول؟ وهل من المعقول أن الوزارة بكاملها لا يوجد متحدث واحد يرشد المراجعين ويقول لهم الحقيقة عن طلباتهم...؟ عدة أسئلة تمنينا بأمانة أن تجيب عليها الوزارة بكل صدقية، فهل في الأمر شيئا صعبا؟!
العدد 1097 - الثلثاء 06 سبتمبر 2005م الموافق 02 شعبان 1426هـ