ليس صحيحا أن تختزل أسباب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في المقاومة - وحدها مع التأكيد على دورها المهم في معادلة الصراع - لأن الموضوع أكبر من ذلك وأوسع ممتدا إلى أبعاد رئيسية في عملية التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين وفي الفكر اليهودي بصورة أشمل، ففي موضوع التفاوض وترتيبات الوضع الديمغرافي أرادت "إسرائيل" أن تتخلى عن مستوطنات متناثرة لا مستقبل لها ولا يقطنها سوى 8158 يهوديا يتكتلون في مستوطنات كفار داروم وموراج ونتساريم من أصل واحد وعشرين مستوطنة تنفق على أمنها "إسرائيل" مئات الملايين سنويا، مع تكرار زج موضوع الاستيطان بها في كل مبادرات السلام الدولية، وبالتالي فإن نقل هؤلاء إلى مستوطنات في الضفة الغربية سيقلل من النفقات الأمنية والعسكرية وسيزيد من معدلات التكاثر هناك وسيلمع صورة "إسرائيل" خارجيا كطرف ملتزم بالسلام، أضف إلى ذلك فإن الوضع المعيشي والاقتصادي في قطاع غزة يكاد يكون فزاعة مخيفة للإسرائيليين، فالمواطن الفلسطيني في القطاع خسر خلال الأعوام الأربعة الماضية أكثر من ثلث قيمة دخله، مع الإشارة إلى أن مساحة القطاع تبلغ 376 كيلومترا مربعا يسكنها مليون وربع المليون فلسطيني، بمعدل نمو يصل إلى 4,5 في المئة سنويا وهو ما يعني أن الكثافة السكانية في القطاع ستبلغ 6650 فردا في الكيلومتر! في موضوع الفكر اليهودي فإن غزة لا تشكل سوى محلا لرمي قاذورات اليهود باستثناء بعض الآراء الدينية للحاخام جدلياهو أكسلرود رئيس محكمة حيفا الدينية السابق "فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها، لم يبق شاردا بل حرم كل نسمة، كما أمر الرب إله "إسرائيل"، فضربهم يشوع من قادش برنيع إلى غزة وجميع أرض جوشـن إلى جبعـون" "يشوع 10: 28 - 41" وهنا يجب ألا يتصور البعض بأن هذا الموضوع مبالغ فيه أكثر من اللازم بل إن تديين السياسة في "إسرائيل" يحتل مكانة متقدمة جدا في السياسات العامة والتفصيلية، هذا إذا استحضرنا أيضا الحقيقة التاريخية من أن أصل قيام دولة "إسرائيل" هو على أسس دينية وتوراتية تحالفت مع قرائن استعمارية أخرى. وفي موضوع المسألة الديمغرافية فإن الدراسات تشير إلى أن مجموع الفلسطينيين الموجودين داخل الخط الأخضر والموجودين في قطاع غزة والضفة الغربية يبلغ أربعة ملايين ونصف المليون بنمو يصل إلى 3,2 في المئة في حين يبلغ عدد اليهود في كامل الأراضي الفلسطينية خمسة ملايين بنسبة نمو تصل إلى 1,9 وهو ما يعني أن نسبة الغلبة للفسلطينيين بعد أمد قريب ستكون فاقعة، وهو ما سيدفع بـ "إسرائيل" لأن تعيد توزيع الاستيطان في الضفة الغربية وتكثف من عمليات استجلاب اليهود من مناطق مختلفة من العالم. إذا، المؤشرات كلها لا تخرج عن إطار ترتيبات إسرائيلية صرفة لا تنظر إلى مسألة التفاوض وعملية السلام بزاوية محددة واستراتيجية وخصوصا أن شـارون كان يفضل "ومنذ العام 1982" - كما يقول الأستاذ الكبير عزمي بشارة - اتفاقا على شكل "لا حرب" ذات نمط مرحلي طويل المدى ترافقه تنازلات إسرائيلية محدودة على اتفاق سلام دائم مع العرب، لأن هكذا ترتيب سيكون أجدى من اتفاقات السلام الدائمة، فالأخير يصبح برأيه ممكنا ليس عندما يعترف العرب بـ "إسرائيل" كحقيقة قائمة في اتفاقات فقط، بل عندما يعترفون بأن لليهود حقا تاريخيا بإقامة دولة في هذه البلاد، وإذا ما قررنا ذلك وأتبعناه بتصور شارون للدولة الفلسطينية المرتقبة على 42 في المئة من مساحة الضفة الغربية تكون منزوعة السلاح ولا توقع أي اتفاق مع دول معادية لـ "إسرائيل" التي من حقها أيضا الطيران في أجوائها تصبح العملية فارغة من أي محتوى جدي
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1097 - الثلثاء 06 سبتمبر 2005م الموافق 02 شعبان 1426هـ