في زيارتي الشهر الماضي إلى إيران، كنت أبحث فيما أبحث عما تبقى من المفكر علي شريعتي. فالرجل كما تعيه الذاكرة صاحب دور كبير في استنهاض همة الشعب الإيراني في مقاومة الاستبداد والظلم ومقاومة عملية التغريب التي قادها الشاه. شريعتي، ابن الشرق والإسلام العظيم، ذهب إلى السوربون ليدرس علم الاجتماع، وعاد ليحدث الناس عن علي والحسين وأبي ذر، وعن اختطاف الإسلام على يد حكام وملوك المسلمين، واحتجازه في قصور السلاطين، سنة وشيعة، على توالي القرون. الرجل قاد حربا على عدة جبهات، ضد عدد من مراكز القوى في بلاده على مدى ثلاثين عاما حتى اغتاله "السافاك" في لندن في حادث إرهابي غامض. فبالإضافة إلى الشاه الذي كان يريد تقليد الغرب حتى في طريقة الضحكة والعطاس، كان هناك اليسار المراهق الذي كان يريد تقليد الشرق أيضا في الضحكة والعطاس! فضلا عن ذلك هناك طبقة كبيرة من رجال الدين الذين ارتبطت مصالحهم بالحكم، أو استراحوا لمهادنته، فأصبحوا حجر عثرة أمام التغيير، حتى قال الإمام الخميني "ره" إنه ذاق منهم أضعاف ما ذاقه من الشاه. هذا المفكر الفذ، استطاع أن يقود الحرب على هذه الجبهات الصلدة حتى أحدث فيها خروقات واسعة، ولما رحل خلف وراءه هذا التراث الفكري الضخم، الذي يتعرض اليوم لبعض السرقات "غير الأدبية" هنا في البحرين! في المكتبات الكثيرة التي دخلتها في إيران الشهر الماضي، لم أعثر على كتب شريعتي، غير كتاب واحد كتب عنه، وهو مؤشر لا يخلو من دلالة سلبية على كل حال. حاولت أن أسأل من التقيتهم، فاتضح أن كثيرين لا يعرفونه على رغم تسمية بعض شوارع المدن باسمه، وبعضهم لم يسمع عنه. مهندس طيران في مطار طهران كان يدرس بالجامعة حين قيام الثورة أجابني بقوله: "لاشك أن شريعتي لعب دورا كبيرا في الثورة". الشخص الآخر الذي أجابني باستفاضة، كان سائق سيارة أجرة، جمعتنا الصدفة به في الطريق من قم إلى إصفهان، أسعفته لغته الانجليزية في تقديم الشهادة على عهد مضى. الرجل المتقاعد حاليا حصل على بعثة للولايات المتحدة أيام الشاه، وعاد أيام الثورة ليشارك بعدها في الحرب العراقية الإيرانية لثماني سنين. حين سألته عن شريعتي أجاب: "طبعا لعب الشهيد علي شريعتي دورا كبيرا في استنهاض الشعب في الداخل، لأنه كان يعيش مع الناس، ويبث فيهم قيم الثورة ورفض الظلم". واستشهد بإحدى كلماته المشهورة التي يحفظها: "ما قام قصر إلا على أنقاض كوخ". سألته: ماذا تبقى من شريعتي؟ أجاب: "مازال يتذكره كبار السن ممن عاصروا الثورة وما قبلها، وربما يذكر اسمه في إحدى المناسبات في الإذاعة أو التلفزيون، أما الجيل الجديد فلم يسمع عنه شيئا". هذا في إيران، أما في البحرين، فقد عرفه المثقفون وطلبة الجامعات والمهتمون بالفكر والسياسة وشباب الحركات السياسية، دينية ووطنية، منذ نهاية السبعينات. كان أول ما ترجم له كتيب صغير: "هكذا كان يا أخي"، يبكي فيه على جموع الفلاحين المصريين الذين استعبدهم الفراعنة في "جريمة" بناء الأهرامات، فكم من أجساد ذابت تحت أشعة الشمس وضربات السياط ليحفظوا أجساد الملوك. ثم توالت ترجمات كتبه الأخرى، فكان يتلقفها الجسد الثقافي بالبحرين بلهفة. هذه الكتب، وبعد أن زاد التشديد الأمني على الحركة السياسية في البلد، أصبحت من بين "المستمسكات الخطيرة" التي يبحث عنها "زوار الفجر" أثناء مداهماتهم لمنازل الشباب الناشط مطلع الثمانينات، فكانت بعض الأمهات تلجأن إلى إخفائها في البيوت أو دفنها في الحقول القريبة في هذه المنطقة أو تلك. علي شريعتي كان معروفا إذن للبحرينيين منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، قرأوا كتبه ذات العمق الفكري والعطاء الغزير، وفهموا مقاصده واستوعبوا منظومته الفكرية بشكل متكامل غير مبتور. في الفترة الأخيرة يصدم الجسم الثقافي في البحرين ممن عايشوا تلك الفترة، بوقوع أكبر عملية سطو وتزوير لكتب وتراث ومصطلحات شريعتي. "العرابة" العروبية تسرق في وضح النهار مقاطع كبيرة من كتبه، وتنشرها دفاعا عن حجاج العصر صدام حسين، فيما ينقل آخرون أعمدتها بأخطائها النحوية والإملائية، ويستخدمونها حطبا في مماحكاتهم الطائفية، وترويج خرافات "الخطر الشيعي" والتحريض على التيار "الصفوي" الذي يزعمون. لنا وقفة أخرى لكشف عملية السطو والتزوير، إنصافا لتاريخ هذا الوطن، واحتراما لتراث شريعتي المباح، وإماطة للثام عن وجوه السراق والسارقات، "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله" "المائدة: 38" صدق الله العظيم.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1097 - الثلثاء 06 سبتمبر 2005م الموافق 02 شعبان 1426هـ