ما أن أعلن طرح مشروع الدستور العراقي الجديد، للاستفتاء العام يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حتى سارع الرئيس الأميركي جورج بوش بالتفاخر بالإنجاز التاريخي، قائلا: "إن العراق يقدم نموذجا للديمقراطية الملهمة للشعوب العربية والإسلامية". والحقيقة أن تعبير الديمقراطية الملهمة هذه يستدعي وقفة لنعرف مدلولها أولا عند الرئيس الأميركي، وثانيا عند العراقيين والشعوب المستهدفة الأخرى، إذ من حق الرئيس الأميركي أن يفخر بأن احتلاله للعراق منذ العام ،2003 قد أنجز بحمد الله وتوفيقه دستورا للعراق الجديد الذي يريد هو تشكيله على مزاجه ووفق إرادته، وبما يحقق بعض ما فشلت فيه الآلة العسكرية الجبارة التي حولت بلاد الرافدين إلى مقتلة دموية هي الأبشع في عالم اليوم. إلا أننا نعرف كما يدرك كل ذي عقل وفكر واطلاع، أن الديمقراطية الملهمة، يفترض أن تقوم على أسس محددة في دولة مدنية حديثة، يحكمها القانون والمؤسسات المنتخبة بحرية "وليس في ظل احتلال أجنبي" وتتمتع بسيادة كاملة، وتحترم حق المواطنة والمساواة بين أبنائها، بصفتهم مواطنين وليس بصفتهم أبناء طوائف مختلفة متصارعة، تلغي في سبيل إعلاء شأن الطائفة، الهوية وتفتت الدولة وتقسم الوطن لتحوله إلى دويلات متناثرة! وعلى رغم إقرارنا بأن في الدستور العراقي ملامح إيجابية مقدرة، فإن الفلسفة الحاكمة له، تهدد تحت مسميات تبدو براقة، بالارتداد من عصر الدولة المدنية الحديثة، القائمة على حق المواطنة والمساواة بين المواطنين واحترام كل الطوائف والشرائع والأعراق، إلى عصر الدولة الطائفية، أو دولة الطوائف، وتصبح الهوية الطائفية والانتماء إليها بديلا للهوية الوطنية أو القومية. وقد كانت قضية هوية العراق واحدة من أهم الخلافات التي حكمت الجدل الشديد الذي دار حول مشروع الدستور، ذلك أن واضعيه "نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن واشنطن هي التي صاغت موديل الدستور وبعثت به إلى بغداد"، قد قرروا فك الوحدة الوطنية وإزاحة الهوية القومية عن العراق، الذي يعرفه الجميع منذ الاستقلال العام ،1921 وأعلنوا، وفق ما جاء في هذا الدستور، أن العراق لم يعد عربيا، ولكن "العراقيين العرب جزء من الأمة العربية"! والكل يعلم أن هذه الصياغة التجزيئية الملتوية، أثارت ضجة ليس فقط بين كثير من العراقيين، ولكن بين كثير من الدول العربية، حتى إن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وصفها بصراحة شديدة بأنها "وصفة للفوضى" وغير مقبولة باعتبار أن العراق دولة عربية مؤسسة للجامعة العربية! وجاء الرد عليه عنيفا على لسان وزير الخارجية العراقية هوشيار زيباري، الذي قال إن كلام أمين الجامعة العربية فيه تجاوز غير مقبول، وهدد بأنه سيثير هذا الأمر في اجتماع وزراء الخارجية العرب المقرر عقده في القاهرة... وربما يكون هذا الاجتماع مطالبا تحديدا بأن يقول لنا موقفا عربيا محددا، هل العراق بصيغة دستوره الجديد، وصوغ وضعه وهويته، عربي أم نزعت منه صفة العروبة، ثم هل هو مستمر عضوا في الجامعة العربية، أم أنه يشق طريقا آخر! وبصرف النظر عن قدرة الجامعة العربية ودولها على الإجابة عن هذا السؤال الجوهري، الآن أو غدا، فإن الواضح أن الاحتلال الأميركي للعراق منذ مارس/ آذار 2003 حتى الآن، وقد أسقط النظام الصدامي وفكك الدولة العراقية وحل مؤسساتها، كان هدفه صوغ عراق جديد، غير ذلك الذي عرفته المنطقة والعالم، يبنى على أسس طائفية وعرقية متحالفة أحيانا، متصارعة دوما، تتقاسم فيه من الناحية الشكلية، السلطة والثروة، وتحكمه الفيدرالية بين الطوائف والأعراق، الشيعية والسنية والأكراد. هكذا وضع الحاكم المدني الأميركي السابق للعراق بول بريمر، قانون إدارة الدولة، وأقام المجلس الانتقالي والحكومة المؤقتة السابقة، وفق توزيع المناصب على الطوائف المختلفة، غالبية للشيعة والأكراد وأقلية للسنة... ثم جاء الآن دور الدستور الذي يصفه الرئيس الأميركي بأنه يمثل ديمقراطية ملهمة، ليكرس التقسيم الطائفي، وتحديدا بين المسلمين الشيعة، والعرب السنة، والأكراد، وباقي الطوائف الصغيرة وخصوصا من المسيحيين، كما يقول. وحين ندقق في التعابير المستخدمة، نلاحظ أنه جمع المسلمين الشيعة في سلسلة واحدة، بينما نعرف أن بينهم عربا وغيرهم من أصول فارسية، وأنه قال العرب السنة، بينما غالبية الأكراد سنة أيضا... والمسألة ليست بالبراءة التي تقول إنه تقسيم واقعي على الأرض، واعترافا بحقوق طوائف تعرضت للظلم والمعاناة، وخصوصا في ظل حكم الرئيس المخلوع صدام حسين، فالحقيقة أن كل طوائف الشعب العراقي، بما فيها السنة، عانت الظلم والقهر بالتساوي. لكن الهدف هو إيصال العراق - الدولة الموحدة الغنية - إلى تقسيم على أسس طائفية وعرقية متنازعة السلطات متصارعة على الثروات، لتصبح النموذج الملهم. ومثلما كانت ولاتزال قضية الهوية الوطنية والقومية موضع خلاف جذري بشأن مشروع الدستور العراقي، جاءت قضية الفيدرالية لتضيف بعدا جديدا إلى الخلاف المشتعل بقوة وقسوة، فالأكراد متمسكون بحق الفيدرالية باعتبارهم قومية مختلفة في شمال العراق، وها هو السيد عبدالعزيز الحكيم أحد أبرز قادة الشيعة يطالب بالمثل، بإقامة فيدرالية شيعية في تسع محافظات بالجنوب والوسط العراقي، ليبقى السنة ذات الغالبية في ثلاث محافظات هي الأنبار وصلاح الدين ونينوى فقط. والفيدرالية المطروحة بهذه الروح، إذ تتخفى وراء القول ان من حق الشيعة والأكراد، التمتع بالسيادة والسلطة في مناطق غالبيتهم، لتعويض مظالم الماضي، فإنها في الحقيقة تؤكد المضي قدما وبخطى عملية، وتحت حماية دستورية، في تقسيم الدولة العراقية وتفتيت وحدتها الوطنية وتغيير هويتها القومية، لكي تتحول إلى كانتونات دينية أو طائفية أو عرقية، وهو "النموذج الملهم" الحقيقي الذي يراد تعميمه في الجوار العربي خصوصا فيما بعد! غير أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن، إذ إن الربان الأميركي وقد دفع بأشرعة الفيدرالية والتقسيم الطائفي في العراق، وقع بقدميه في مأزق سياسي واستراتيجي هائل، ربما بدأ ينتبه له حديثا... في مواجهة تمسك الأكراد بالفيدرالية في كردستان شمالا، طالب الشيعة، وخصوصا أكبر تنظيمين دينيين وهما المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة السيد عبدالعزيز الحكيم، وحزب الدعوة بقيادة رئيس الوزراء الحالي إبراهيم الجعفري، بفيدرالية شيعية في المحافظات التسع التي يرون فيها غالبية شيعية واضحة. والمعنى هنا أن يسيطر الشيعة على الجنوب بما فيه من المخزون النفطي الأكبر، وأن يسيطر الأكراد على المخزون النفطي في الشمال، ويترك أهل السنة على باب الله، تدعيما لمخطط التقاسم الطائفي والتقسيم الجغرافي، الأمر الذي لا يعارضه السنة فقط، ولكن يعارضه تيار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر نفسه، إضافة إلى قطاع أساسي من المثقفين والسياسيين العراقيين من كل الطوائف والأعراق، الذين يؤمنون بوحدة العراق وهويته القومية! مأزق الأميركيين الآن، بدأ يتضح أكثر، حين اكتشفوا أن الدعوة الفيدرالية موازية للشيعة في العراق، قد دخلت في المدار الإيراني، بما لكل من تنظيمي الحكيم والجعفري من روابط قوية تصل إلى حد التوحد بالسياسات الإيرانية المباشرة، في وقت تخوض فيه أميركا حرب تكسير العظام بشأن البرنامج النووي الإيراني، بل بشأن معاداة واشنطن أساسا لنظام الجمهورية الإيرانية، أحد أركان محور الشر المتهم بالتطرف والإرهاب! لقد دخلت إيران بقوة إلى الساحة العراقية، عبر نفوذها لدى قطاعات واسعة من الشيعة في الجنوب والوسط، ليس فقط لتؤيد وتدعم نفوذها الإقليمي، ولكن أيضا لتغرس خنجرا جديدا في ظهر الوجود الأميركي وتعرقل مخطط هيمنته المنفردة على نفط الجنوب ومخزونه الهائل... ولتقلب في النهاية المقامرة الأميركية بتشجيع الفيدرالية والطائفية، إلى سلاح في ظهر أميركا مباشرة التي لم تعد قادرة لا على وقف تيار التقاسم الطائفي، ولا على مجابهة الاستنزاف العسكري في المدن والقرى العراقية، ولا على الخروج من المستنقع بأقل الأضرار وفي أسرع الأوقات. فماذا يعني ذلك كله، وإلى أين تقودنا الحوادث المتسارعة؟ يجيبنا قانون الاحتمالات، فيطرح السيناريوهات الآتية: 1- أن يشتد الخلاف على الدستور بكل فلسفته وأسسه، ما يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية مستعرة تحرق الجميع في العراق، وتزيد من تورط الأميركيين. 2- أن يصبح التقسيم الطائفي وتقاسم السيادة والسلطة والثروة، خيارا واقعيا مفروضا، ويتحول العراق إلى دويلات الطوائف المتخاصمة. 3- أن يسود التعقل والوفاق، بالعودة إلى صيغة الدولة العراقية الموحدة، بضغوط داخلية وعربية ودولية، وفي ظل توازن للمصالح والأهداف. 4- أن يقع العراق تحت وصاية دولية لفترة طالت أو قصرت، حتى تسوى الأمور على نار هادئة، بحيث تظل أميركا هي المهيمنة، عبر شرعية دولية تكتسبها من الأمم المتحدة طبعا... وباستثناء الاحتمال الثالث، الذي يبدو ضعيفا في ظل ما يجري، فإن كل الاحتمالات الأخرى بائسة وتعيسة بكل أسف وأسى. أخيرا... نسينا أن نسأل كل العرب، ماذا أنتم قائلون أو فاعلون في هذه الديمقراطية الملهمة الزاحفة على كل عواصمكم العامرة!
خير الكلام
يقول لسان الدين بن الخطيب: تلون إخواني علي وقد جنت علي خطوب جمة ذات ألوان!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1097 - الثلثاء 06 سبتمبر 2005م الموافق 02 شعبان 1426هـ