العدد 1096 - الإثنين 05 سبتمبر 2005م الموافق 01 شعبان 1426هـ

البحث عن الحقيقة في "دولة العصابة"

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

الشأن اللبناني أخذ متسعا من المساحة في الإعلام الدولي في الأسبوع الماضي على خلفية توقيف قوى الأمن اللبناني - بنصيحة من اللجنة الدولية التي تنظر في قضية مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري - عددا من المسئولين الأمنيين السابقين للتحقيق معهم بسبب "اشتباه" في تورطهم في الجريمة النكراء، وما تلا ذلك من ادعاء عليهم.

مثل هذا التوقيف استدعى الكثير من الآراء، سواء أفكارا كلية تتعلق بدور "الدولة الحديثة" في الشرق الأوسط، أو بمستقبل بناء الدولة المرتجاة.

للكاتب العراقي المخضرم حسن العلوي كتاب مهم بعنوان "دولة العصابة" يتعرض فيه للوضع العراقي تحت قيادة البعث بزعامة الرئيس المخلوع صدام حسين، ويقارن العلوي بين "حكم العصابة" وحكم الدولة الحديثة. ويخرج في نهاية الأمر بتصور أن "الدولة التي تحكمها عصابة" تقرر هذه العصابة من يعيش ومن يمت، من يغتني ومن يفتقر، من يتهم بالخيانة ومن يتهم بالوطنية، من يتحدث ومن يصمت، بل في نهاية الأمر من هو إنسان ومن هو حيوان أو أقل مرتبة.

في التفاصيل حتى الآن مما رشح من تحقيقات في قضية اغتيال الحريري، يبدو أن "دولة العصابة" ليست حكرا على "دولة صدام حسين البعثية" فهي تتكرر في أكثر من مكان تحت مسميات مختلفة وبدرجات متفاوتة، وتظهر بكل بشاعتها في لبنان، الذي شهد عددا من الاغتيالات كان على رأسها اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وصحبه في الموكب، ولكنها لم تكن الأخيرة، فقد سبقتها ولحقتها مجموعة من الاغتيالات السياسية، وغالبية الظن أنها لن تكون، بحضور "دولة العصابة" آخر المطاف.

وإذا كان رئيس اللجنة الدولية للتحقيق ديتليف ميليس الذي ظهر على الملأ في الأسبوع الماضي يرد على أسئلة الصحافيين، هو من هو كما تقول سيرته الذاتية المنشورة، فخلفيته العملية تنم عن انشغاله لفترة طويلة بمتابعة "الإرهاب" فإن الرأي المرجح - حتى الآن - يرى أن ميليس لم يقل كل ما لديه في المؤتمر الصحافي، كما انه أرسل أكثر من طعم "لتوريط" من يشك في تورطهم في الاغتيال، بعضهم كما بدا سريعا، تناول الطعم وهو يعتقد أنه سلمه إلى النجاة.

إلا أن القضية برمتها تطرح مستقبل "دولة العصابة" في شرقنا المنكوب، ولعل لبنان حقل تجارب لا أكثر من ذلك، مع الأسف.

دولة العصابة لا تقتل فقط مواطنيها كل ما أرادت ومتى ما أرادت، وتصفي معارضيها متى ما قررت ذلك، بل فوق ذلك كله تسلم استقلال بلدها إلى الآخرين في نهاية المطاف، والعراق خير مثال حي على ذلك. وهذا ما حصل في لبنان. فديتليف ميليس ليس من كسروان ولا المتن ولا البقاع، هو من برلين، وخلفيته كمدع عام تتبع الجريمة المنظمة، أكانت من عصابة عادية أو دولة، ومرجعيته ليست البرلمان اللبناني ولا حتى الدستور اللبناني، بل مرجعيته هو مجلس الأمن "القمة الدولية الحاكمة"، فدولة العصابة تسلم مرجعية بلادها في نهاية الأمر إلى الخارج، بصرف النظر عن الشعارات الطنانة والأهازيج المرتجلة، وبصرف النظر عن درجة هذا التسليم.

وتحاول دولة العصابة أن تغرر بالبسطاء والسذج، بأن أفعالها جاءت للدفاع عن هدف أسمى وأكبر، في الحال اللبنانية تحول إلى أضحوكة. فالرئيس الحريري، إذا كان ثمة توجه عروبي في لبنان، فإنه خير من يمثله، وإذا كان ثمة توجه تنموي في لبنان فهو الذي كان يرعاه. ثم يحاول البعض أن يفهم البسطاء أن الحريري العربي واللبناني كان ضد العروبة، يا لها من مفارقة، أو هو في بعض الأوساط "تنموي على حساب الفقراء" وهو الذي علم وطبب عشرات الآلاف منهم ووضعهم على طريق الاستفادة من ثمرات التنمية، بل ووضع لبنان على طريق القيام.

فدولة العصابة من ضمن أدوارها خلط الأوراق الداخلية، بعد أن تكون سلمت مقدرات بلدها آجلا أو عاجلا لقوى خارجية.

دولة العصابة لا تعمل بشكل مستقل، فهي تنمو أولا في الدولة الدكتاتورية، وثانيا تتلقى تعليماتها من "رأس ما" لأن موظفي دولة العصابة يعرفون أنهم يقترفون ذنبا عظيما في قتل الناس وتشريدهم، ولكنهم يستندون إلى "تعليمات أو أوامر" من "فوق" ومن طبيعتهم أن يحتفظوا بدلائل مادية تساعدهم عند الحاجة على النفاذ بجلدهم. ليس فقط النفاذ بجلدهم في حال اكتشاف أدوارهم محليا، بل وكضمانة لهم ضد من أصدر التعليمات، حتى لا ينقلب عليهم في وقت ما. من هنا فإن محاربي دولة العصابة لديهم الكثير مما يستطيعون قوله في حال سقوطهم في الفخ، شرط أن يقترن الوقوع في الفخ بالأمان من الانتقام من مصدر الأوامر، وهذا ما يبدو أن المحقق الألماني يرغب في تحقيقه.

قليل من رجال "دولة العصابة" ممن يبقون على الحياة في حال استمرار "السيد" في السلطة، فهو يتخلص منهم بعد أن يلعبوا لعبتهم القذرة، لأسباب أقلها قطع حبل الاتصال، وأكثرها تداولا تجفيف منابع المعلومات وقفل الملفات.

من هنا فإن ما نراه ونسمعه اليوم في قضية اغتيال الحريري هو رأس جبل الثلج لا الجبل نفسه. لذلك تكثر التكهنات "الشعبية" عن صفقة هنا أو هناك، ولكنها ان حدثت، فإنها ستسقط الصدقية الدولية، بعد أن سقطت الصدقية المحلية وفي ذلك كارثة على الجميع.

الحريري ليس رجلا عاديا ولبنان ليس بلدا هامشيا والوقت ليس وقت التجاوز، هذه الثلاثية تجعل من البحث عن الحقيقة، والحقيقة المجردة والمطلقة والمحررة من كل اعتبار أولوية ليس لآل الحريري وليس لسنة لبنان وليس أيضا لكل لبناني يسعى ليحقق حياة كريمة على أرضه، بل الوصول إلى الحقيقة تعني كل مواطن عربي يتوخى أن يطل على المستقبل المحتمل وهو محرر من ضغط اليد الغليظة، يد رجال العصابة والمافيا السياسية والمالية التي تحكمت عن طريق رفع شعارات وطنية ضخمة، في مصير ملايين البشر، أفقرتهم وجردتهم من إنسانيتهم وشردت بعضهم وأدخلت السجون البعض الآخر وكتمت رأي آخرين، ثم أودعت آلافا منهم في بعض المناطق العربية "القبور الجماعية".

تقرير ميليس المرتقب هو تقرير يتوخى الجميع أن يكشف ليس من خطط وشارك ونفذ في اغتيال الحريري وصحبه يوم الرابع عشر من فبراير/ شباط الماضي، بل وفوق ذلك يكشف للجميع أهداف وآليات ووسائل "دولة العصابة". وقتها فقط سنضع في هذه المنطقة المنكوبة أيدينا على الوسائل التي تضعنا على الطريق الصحيح لتحقيق الدولة الحديثة، دولة المواطنة والقانون

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1096 - الإثنين 05 سبتمبر 2005م الموافق 01 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً