العدد 1096 - الإثنين 05 سبتمبر 2005م الموافق 01 شعبان 1426هـ

العقل لم يستقل... بل أقاله الجابري أسطرة ووهما...

في "العقل المستقيل" لطرابيشي

المنامة - عادل مرزوق 

تحديث: 12 مايو 2017

ليست على مشجب الغير تلقى، وليست هرمسا لا معقولا أنتجته أسطورة حران، وليست استقالة عقل أتى بها الشرق، في مراكب جنائزية، وليس الغرب ضحية لشرق مهووس بموروث قديم لم يستطع الفكاك منه. لعلها مأساة من عمق الداخل، لم يكشف عنها، أو قد تكشف في الجزء الأخير الخامس. هذا ما حاول جورج طرابيشي إثباته في إصداره الرابع من سلسلة نقد العقل العربي "العقل المستقيل في الإسلام"، عبر سبره على مدى فصوله الخمسة في نقد العقل المستقيل، والذي حاول أن يفكك فيه قطعا من التراث العربي والإسلامي، عكف عليها الجابري أملا في تصييرها دلالة على العقل المستقيل. الكتاب يمثل استكمالا لمشروع طرابيشي المرتكز على فضح الخواء المعرفي لمنتج الجابري.

إن جورج طرابيشي لا يحاول نقد مشروع الجابري وحسب، بل هو يسعى الى تأطير رؤية تأسيس جديدة للقراءة التاريخية، فكاكا من العقدة التي صنعها الجابري واصفا إياها بـ "الحقل الملغوم الذي يسد المنافذ المعرفية إلى قارته". ومن هذه الزاوية تحديدا، يفضل طرابيشي النظر الى مشروعه. قد ينفك فعلا طرابيشي في إصداره القادم عن الجابري، إذ انه مطالب بالإنتاج الذاتي المحض، ليكون لنا، توضيحا حول ماهية المأساة الداخلية والمحكومة بآليات الذات. والتي يتحمل العقل العربي مسئوليتها كاملة. إننا ننتظر.

جغرافية الجابري المعرفية الوهمية

يستعرض جورج طرابيشي في الفصل الأول سلسلة "الفضائح المعرفية" للجابري، في جغرافيته وابستمولوجيته المعرفية، وفي توهمه بأن أفلوطين كان مسيحيا رومانيا، والحقيقة أنه من مواليد مدينة أسيوط المصرية، وأنه كان وثنيا فلاحا. بل إن خاتمة "توساعية افلوطين" كانت ردا مركزيا على المسيحية.

ينتصر طرابيشي للاسكندرية عاصمة للفلسفة بعد أثينا، ويحاول فضح سذاجة المبتدئين في ميدان تاريخ الفلسفة "يعني الجابري". ويؤكد حقيقة القوة التاريخية للفلسفة الإسكندرانية، داخل النصوص التاريخية، ويستشهد بذات بالمراجع ذاتها التي استنطقها الجابري نفسه.

يسرد طرابيشي إرثه التاريخي "المتغول" في تفكيكه لخطاب الجغرافيا الجابرية المعرفية، مستشهدا بجميع أرجاء المعمورة، في وسط غزارة نصية، تحاول "جبرنة" الرؤية المعرفية والفلسفية للجابري، بأنها نتاج نفسه، وتوهماتها، لا نتاج معرفة مستقاة، أو نتاج بحث تاريخي مستفيض ومتكامل.

يرى طرابيشي أن الجابري ذهب إلى إقالة العقل العربي الإسلامي، ولم تكن للعقلانية العربية "استقالة ذاتية أو بمؤثر خارجي"، فالجابري تعمد إقالة العقل العربي وتشويه الجغرافيا المعرفية للفترة الهرمسية، بهدف التأسيس لسببية منطقية، يحيل لها استقالة العقل العربي الإسلامي بالمؤثر الخارجي.

وقع الجابري أسيرا للراهب الدومنيكاني فستوجيير في تأطيره المعرفي للمرحلة الهرمسية، وهكذا يصف الجابري نفسه رؤية فستوجيير بأنها "أحدث وأوفى دراسة عن الهرمسية"، ومن الرؤية ذاتها حاول طرابيشي اخواء البعد المعرفي والفلسفي للجابري.

أسطورة حران الجابرية

الجابري صاغ أسطورة خيالية، وهي أسطورة حران ليسقطها على قراءته التاريخية الناقصة عن أفاميه "سبب سقوط العقلانية الغربية"، وليؤكد ما ذهب إليه من أن العقل العربي "استقال" بمجموع المؤثرات العرفانية للشرق الإسلامي، وليؤكد طهارة العقلانية في المغرب العربي والأندلس والجزيرة العربية، في وجه التهرمس العرفاني "اللاعقلاني" والمقبل من سورية والعراق وإيران الكبرى، ويرى طرابيشي ان الجابري حين يقرر هذه النتائج فهو لا يقولبها تحت أي منظور معرفي مقبول، فهي قمة أوهام الجابري في نتيجته الكبرى الأسطورية الكبرى "تغريب العقل، وتشريق اللاعقل".

يركز الكاتب على سرد الجابري في مقالته "ابن سينا وفلسفته المشرقية"، والتي اتضح منها تركيز الجابري على ثنائية واهمة بين "مشرق، حراني، فارسي" وبين "مغرب، اسكندراني، مسيحي". وطبعا استعرض الكاتب تلك المعرفة التاريخية الرهيبة التي يمتلكها، في تفكيك "أسطورة حران" بل إنه يعود بنصوص الجابري ومصادره التاريخية إلى نصوصها الأولى؟!، في غاية تصحيح معلومات من نقل عنهم الجابري، فضلا عن الجابري نفسه.

ويثبت جورج طرابيشي أن حران مرت بها المسيحية والإسلام، وليس كما يحاول أن يصورها الجابري، بأنها بؤرة خارجة عن جغرافيا الإسلام، إذ كان ينمو فيها اللامعقول الإسلامي. ويتساءل طرابيشي في نهاية هذا الفصل عن علمية الرهان الكبير الذي اعتمد عليه الجابري في إدعائه بأن "حران" هي حاضنة دخول اللامعقول للعقل العربي الإسلامي. ويورد سردياته التاريخية لينقض بها كلام الجابري كلمة كلمة، نصا، نصا.

الحكم على الغابة من أفق شجرة

يحاول طرابيشي في الفصل الثاني من كتابه تتبع هفوات الجابري في أحكامه الجغرافية، فالجابري في إطار محاكمة العقل المستقيل، يحكم بهرمسة كل من إخوان الصفا، والحلاج، والشيعة والجهمية.

يتساءل طرابيشي عن مدى صدقية كون إخوان الصفا "متهرمسين"، فقط لأنهم اعتمدوا ثنائية الإنسان والعالم كعدسة رؤية لفهم البنية الكسمولوجية للعالم، والبنية التشريحية للإنسان، ويعود الى النصوص الجابرية مفندا إياها من ذاتها، ويتهم الجابري بأنه لم يوظف ما قرأه عن فستوجيير بالطريقة الصحيحة، ويلخص قراءته بان ما ذهب اليه الجابري من ادعاء هرمسية إخوان الصفا هو ادعاء بلا دليل أو برهان. بل إن أدلة الجابري، هي أبسط ما يرد عليه بها.

كما يستعرض طرابيشي إشكال الجابري في هرمسية العبارة "خلق الله آدم على صورته". إن ما اقتضاه الجابري من هرمسية التأكيد على الأصل السماوي - الإلهي للنفس، يجرنا إلى الحكم بالتهرمس على "جميع الأفلاطونيين والأفلاطونيين المحدثين في الثقافة العربية الإسلامية، بدءا بالرازي وانتهاء بابن سينا والغزالي مرورا بالفكر التصوفي"، وحاول الجابري تغييب - الأفلاطونية - واستحضار الهرمسية، متعمدا. وهذا تزييف واضح، وحين يضطر الجابري للتمويه بإيراد عبارة عن مرجعه الملهم فستوجيير، فإنه يحذف في الواقع بعض نصه، ويقوله ما لم يقله. وكيف لفستوجيير الأب الدويمنيكاني أن يهرمس عبارة واردة في الإصحاح الأول من سفر التكوين.

يصف الجابري الشيعة بأنهم "أول من تهرمس في الإسلام"، كما ذهب إلى هرمسية المتصوفة عبر نص الحلاج "أنا الحق"، أو "خلق الله آدم على صورته" وحينما يذهب الجابري إلى هرمسة هذه العبارة "خلق الله آدم على صورته"، فهو يجهل مرة أخرى بأنها آية توراتية، وحديث نبوي وارد في الصحيحين. ويرى طرابيشي ان تناول الجابري للشيعة والمتصوفة لا يخلو من لغة مؤدلجة. ويتساءل لماذا حاول الجابري تغييب تسمية الجهمية في استشهاداته التاريخية بالإشارات المنقوطة "..."، ويرجع السبب بعد مراجعة النصوص الأصلية، الى أنها عبارة "المعتزلة". فالجهمية هم أحد طوائف المعتزلة، ويرى أنه عجز أن يمرر تهرمس المعتزلة الى مجموع منهجه الذاهب الى هرمسة جماع الفكر اللاهوتي والصوفي والفلسفي والعلمي في المشرق. لذلك استحضرت المعتزلة تحت اسم الجهمية.

الفلاحة النبطية

يحاول الكاتب في الفصل الثالث استعراض إحدى الموروثات القديمة التي وصفها الجابري بأنها تمثل حضور اللامعقول في العقل العربي الإسلامي، وهو كتاب "الفلاحة النبطية"، لمؤلفه المزعوم ابن وحشية، والذي صوره الجابري على أنه كتاب تنجيم لا يستحق التفنيد، فيكتب الجابري عنه في حدود الصفحة الواحدة بلغة استهزائية، يختمها طبعا بتقرير الثبوت بهرمسيته عبر الإحالة الى فستوجيير، مرجعه في تبيان هرمسية أي موروث شرقي.

يرى الكاتب أن الجابري قام بالتكهن هو ومرجعه في الحكم على الكتاب بأنه منتج شعوذة وتنجيم وسحر، وبأنه كتاب هرمسي صرف. ويحاول الكاتب على امتداد هذا الفصل الاستدلال عبر تحليله التاريخي - العميق كالمعتاد - الى استنطاق الأوراق الاستشراقية لأصل الكتاب، خصوصا الفرنسية منها، وكذلك سير التاريخ لابن النديم حول ابن وحشية أو رفيقه الزيات.

الكلدانيون هم سطروا الكتاب ونقله الى العربية ابن وحشية، واتم الزيات النسخ بعد وفاة ابن وحشية. ولاقى إشكال التزوير أو الترجمة قراءة مطولة من لدن الكاتب. ويستطرد في محاولة خلق قراءة اركيولوجية للكتاب، في محاولة جادة لتحديد الإطار التاريخي للكتاب.

يستنكر طرابيشي على الجابري توصيفه لكتاب مهم يهتم بالزراعة والحرث وعلم الأشجار والأوراق، بأنه كتاب لاعقل "هرمسي" يهتم بالتنجيم او الفلاحة التنجيمية كما يذهب فستوجيير. ويرى الكاتب أن الفلاحة النبطية هو "بمثابة تراكم معرفي حقيقي، يعطيه حجما موسوعيا"، ويقدم طرابيشي قراءة معمقة للكتاب سابرا أغواره في بنيته الأبدبيولوجية، واصفا أياه بأنه كتاب ايديولوجي في بيئة زراعية، إذ ان الشخصيات الواردة فيه على لسان "قوثامي" من الأنبياء أو أشباه الأنبياء من الشخصيات الكاريزمية، يلعبون في بيئة اجتماعية زراعية منجزة العمران. كما يسبر فيه معرفيا، ليجد فيه من أغوار الفلسفة الكثير من المعارف الحية.

البنية المعرفية لقوثامي

يحاول الكاتب تفنيد ما ذهب له الجابري من هرمسية الكتاب عبر استنطاق البنية المعرفية للكتاب، لذلك فهو يحاول تحليل نصوص "قوثامي" "المؤلف الحقيقي للكتاب على حد الاطمئنان". عبر محاور النبوة والوحي، والسحر والطلسمات "الذي هاجمه مؤلف الكتاب الهرومسي!"، والتنجيم. "كذلك وقف الكاتب منه موقفا سلبيا!".

في الحقيقة لا أدري لماذا ركز الكاتب وعلى مدى 91 صفحة على محاولة نقد الجابري، في اعتقاده بهرمسية الكتاب. إذ إن الجابري نشر نقده قبل أن تجمع مخطوطات الكتاب وتنشر. ولعل المراجع التي اعتمد عليها الجابري - باعتراف طرابيشي- في المتوافرة فقط. كما أن الجابري لم يعط نقد الكتاب اهتماما بالغا، بل ذكره كتعليق بسيط. ولعل إصرار طرابيشي على إثارة هذه القراءة النقدية الخاصة بالكتاب فيها بعض التحامل والتقصد الزائد.

نصرة إخوان الصفا

ينتصر طرابيشي لإخوان الصفا من هجومات الجابري، وهذا ما خصص له الف





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً