قبل ثمانية أشهر، بينما كنت أجري بعض المقابلات مع فناني المرسم الحسيني لنشرها في تحقيق صحافي، جاءني أحد الإداريين ليخبرني بوجود شخص كان يسأل عني باستمرار. فاستمهلته قليلا حتى أنهيت ما بيدي، وذهبت معه قرب مكتب الاستقبال.
هناك كان بانتظاري رجل كبير في السن، كث اللحية، بسيط في الهيئة، عليه لباس عربي، من لهجته حسبته من اخواننا العمانيين، لكن تبين لاحقا انه من أهل البحرين. ابتدأ الرجل بتوجيه النقد لما كتبته عن "المجنون"، في ثلاثة أيام متوالية، في تقريع أحد مرضى العربدة الطائفية التي تجتاح البلد منذ فترة، فقال: "ان ما كتبته عنه ليس صحيحا، فهو ليس مجنونا"!
أردت أن أقول له ان المجنون ليس فقط من ينزع ثيابه في الشارع ويتعرى أمام الناس، انما هو أيضا من ينزع رداء الإسلام والوطنية والأخلاق في مخاطبة الآخرين ويخونهم ويتهمهم، ويتخيل أن الجنة محجوزة لطائفته وحدها ويتوعد الطوائف الأخرى بالنار، كأن مفاتيح أبواب الجنة والجحيم ملك أبيه! لكن صاحبنا لم يترك لي الفرصة للحديث، فاستمر قائلا: "انه ليس مجنونا انما هو في كامل وعيه، يكتب ما يكتب عن وعي ويقصد ما يكتب". سألته: "ماذا تسمي هذا الجنون إذن؟" فقال: "انه موتور".
كانت الإجابة غريبة على فهمي، فانتظرته ليكمل حديثه فربما يتضح مقصده، فقال: "انه ليس من أصل عربي حتى لو تقعر في كتاباته، وانما كان لقومه مملكة في يوم من الأيام على سواحل فارس أسقطتها الحكومة المركزية، لذلك فهو يحقد على الايرانيين وكل من يشاركهم في مذهبهم، وهذه هي العقدة التي تدفعه لكتابة كل ما يكتب على الدوام". فقلت له: "وماذنب أبناء هذا الوطن حتى يدفعوا ضريبة حقده الأعمى".
لم أكن ضليعا في تاريخ الإمارات العربية أو الفارسية، الساقطة ولا اللاحقة، وعلى رغم شغفي بقراءة التاريخ القديم والحديث، إلا أن تواريخ السلطنات والدويلات الصغيرة بالذات لم تكن تستهويني لصغر شأنها في مسار التاريخ. من هنا أبقيت كلام الرجل في خانة الاحتمالات الواردة التي ربما تفسر لنا بعض أنواع "الجنون".
في الفترة الأخيرة نجد أنفسنا أمام حال يحار فيها أطباء المستشفى النفسي، إذ تجاوزت الجنون إلى فقدان العقل بالكامل والدخول في مرحلة "الهلوسة" والتخيلات، بعد أن بلغ ذلك "المتقعر" مرحلة "البراهما"! فبعد أن أشبع مواطنيه بمواعظه الطائفية التي تفرق بين المرء وجاره، أخذ يتخيل نفسه منظرا استراتيجيا مثل هنري كيسنجر، داعيا القمة الخليجية إلى ضم بعض دول الأطراف العربية إلى المنظومة الخليجية!
في مرحلة تالية، تخيل نفسه بطلا من أبطال الرعب، فأخذ يخوف الدول العربية من "الهلال الشيعي" الذي بشر به ملك عربي شاب، سرعان ما تراجع عنه لما أكتشف ان القصة كلها من تهاويل اليهود، إلا أن "المجنون" أخذ يصر مستكبرا على وجود هذا الهلال المرعب المخيف!
في فترة من فترات القتل الهمجي الذي ولغ أصحابه في دماء المدنيين العراقيين، واستباحوا سفك دمائهم في الشوارع والمطاعم والمستشفيات، أعلن إعجابه بأحد "المتورطين" في عمليات القتل والتفجير، وكان مطلوبا على قائمة الارهابيين في المملكة العربية السعودية الشقيقة، فكتب ينعاه ويزفه إلى جنان الخلود التي يملك مفاتيحها في جيبه، واعتبره مثالا يحتذى للشباب المسلم الغيور!
هذا المأفون... بعد أن بلغ به الجنون حده الأقصى، تخيل نفسه مستشارا سياسيا للحكام والملوك العرب، ليرشدهم إلى ما يفعلون، فهو أدرى منهم بمصالح الإسلام والمسلمين، وهو أكثر دراية بالسياسة الشرعية التي يجب أن يتبعها الحكام في قضايا الدين والدنيا!
هذا المأفون الخارج عن حده، لو آلت إليه أو لأمثاله الأمور لما ترك على ظهرها من دابة. لم ينصبه أحد من الشعوب ليتحدث باسمه، ولم يطلب أحد من الحكام مشورته، ومع ذلك يتخيل نفسه وصيا على دول الخليج، ومرشدا لحكام المنطقة، وقائدا روحيا للشباب المسلم ليسلمهم في نهاية المقال مفتاحا من مفاتيح الجنة، وفوق ذلك يتخيل نفسه ناطقا رسميا باسم الأمة من المحيط إلى الخليج!
في آخر تجلياته الروحية، وبعد أن فرغ من مهمة إرشاد الحكام والملوك والشعوب، نصب نفسه قاضيا شرعيا على قلوب الناس، فأخذ يوزع بطاقات "الوطنية"، وشهادات "النضال الطويل" و"الشرف الرفيع" على من يشاء!
وفي هذا الميدان بالذات، لم يطلب أحد من المناضلين شهادته، لا عبدالرحمن النعيمي ولا ابراهيم شريف، ولا غيرهم من العلمانيين الوطنيين الشرفاء... لأنها ببساطة شهادة مجروحة شخصيا ووطنيا ونضاليا، وفوق ذلك عقليا أيضا، فشعب البحرين لا يقبل شهادة المجانين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1094 - السبت 03 سبتمبر 2005م الموافق 29 رجب 1426هـ