نظرية ابن خلدون عن التطور وتقليد "الغالب" لتجربة "المغلوب" والتأثر بسياساته وسلوكه. .. هل يمكن إعادة قراءة عناصرها في ضوء التاريخ المعاصر؟
القراءة واجبة لأنها تعطي فكرة عن تصورات جاءت بناء على شواهد التاريخ وقياس الحاضر بالماضي كما ذكر صاحب "المقدمة". فالقراءة ضرورية حتى يظهر الحكم الموضوعي على معنى أو خلفيات تلك الإجراءات التي اتخذتها واشنطن بعد هجمات 11/11/.,,2001 ثم لجأت إليها لندن بعد تفجيرات 7/7/.2005 فالإجراءات "الاحترازية" جرت في سياق ثأري وانفعالات سلبية جاءت كرد فعل على الهجمات والتفجيرات. وهي أيضا كانت أسيرة حالات تشنج استدرجت تلك الدول الكبرى ودفعتها للسير في طريق أمني ليس بعيدا عن النهج الذي يتبعه الكثير من دول العالم الثالث "المغلوبة في شتى الميادين والحقول". فالفعل ورد الفعل وما تبعهما من تصريحات وسياسات وإجراءات اعطت كلها فكرة عامة عن نزعة شمولية "استبدادية" لا تتردد في تكرار الكلام الذي يقوله الكثير من زعماء دول العالم الثالث تبريرا لأفعالهم الأمنية التي تتجاوز الحقوق المدنية للإنسان.
لاشك في أن زعماء الدول الكبرى استخدموا الكثير من الذرائع الأمنية لتبرير القرارات السياسية وما تبعها من إجراءات قانونية وخطوات ميدانية لتغطية ذاك السلوك المستحدث في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان. إلا أن هذه الذرائع ليست كافية لتغطية كل تلك الممارسات والتجاوزات التي جرت باسم "الدفاع عن الحرية" و"الديمقراطية".
فالقوانين التي صدرت كرد فعل سياسي على "عمل إرهابي" اعطت الحق للأجهزة الأمنية في المراقبة والملاحقة والمداهمة والمصادرة والتجسس واقتحام الحياة الخاصة والاطلاع على البريد الخاص ورسائل الانترنت ونشر كاميرات في الشوارع وبين المنازل والاحياء والشركات والمؤسسات وغيرها من هيئات ومنظمات ومدارس وجامعات ومراكز دينية وخيرية.
هذا النوع من التعامل مع الإنسان وهيئات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية ليس جديدا على الدول "المغلوبة". فالدول المغلوبة تأسست أصلا وفق هذا النموذج القهري "الاستبدادي" في التعاطي مع أهلها. الجديد في الموضوع هو أن الدول "الغالبة" لجأت إلى هذا السلوك في مجتمعاتها وباشرت بانتهاج سياسة أمنية "اضطرارية" ليست بعيدة عن أساليب الدول المغلوبة. فالغالب في هذا المعنى "الخلدوني" تأثر بالمغلوب وبدأ يتخذ إجراءات ميدانية تقترب شكليا من مسلكيات أنظمة عربية احترفت هذا النوع من التعامل السلبي "الشك بولاء المواطن واخلاصه" مع أهل البلد.
هذا التأثير المتبادل بين "الغالب" و"المغلوب" بدأ يعطي ثماره المسمومة منذ الأيام الأولى لضربة 11 سبتمبر/ أيلول. فبعد الهجمات ظهرت تصريحات أميركية رسمية تركز على مقولات كانت غريبة آنذاك حين أشارت إلى وجود محاولات أجنبية لتغيير نمط الحياة في الولايات المتحدة. وبعد ذلك أخذت الإجراءات الأمنية "القانونية" بالظهور ولتبدأ الأجهزة بتطبيقها بقرار مباشر من إدارة البيت الأبيض لتغيير نمط الحياة في أميركا. فالدولة تذرعت بـ "القاعدة" لتبدأ بتغيير نمط الحياة بموافقة من المواطن خوفا من تجدد الهجمات.
الرد السريع على تلك الهجمات يطرح فعلا السؤال بشأن خلفية تلك السياسات الجديدة. فهل هو فعلا رد فعل فوري وعفوي ومباشر واضطراري لتطويق احتمالات تكرار تلك الهجمات والتفجيرات أم أن رد الفعل كان جاهزا سلفا وموضوعا على الرف ينتظر حصول مبررات تعطي ذريعة للدولة بإعادة اقتحام المجتمع ومحاصرة الحقوق المدنية للإنسان؟
الشك في هذا المعنى المنطقي ليس جريمة يعاقب عليها القانون وإنما يخضع أحيانا إلى الفحص العقلاني للوقائع ومحاولة الإجابة عن أسئلة قلقة تتصل بأجوبة متوترة. فهل تستمر الدول الغالبة مثلا في سياسة الانزلاق نحو "الدول المغلوبة" وتبدأ الأولى في تقليد الثانية؟ وهل يكفي أن تتذرع الدول الكبرى بأفعال منسوبة لتنظيم "القاعدة" و"الزرقاوي" لتبرير اتباع سلوكيات غير مقبولة في تجاوز الحقوق المدنية للإنسان ومطاردة منظمات المجتمع الأهلي لأسباب أمنية؟
الجواب المتوتر يقع بين تفسيرين: إما أن تكون الإجراءات الأمنية مجموعة قرارات اتخذت سابقا وانتظرت الظروف المناسبة للإعلان عنها، وإما أن تكون الانزلاقات "لعبة الاستدراج" قريبة من نظرية ابن خلدون.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1094 - السبت 03 سبتمبر 2005م الموافق 29 رجب 1426هـ