العدد 1093 - الجمعة 02 سبتمبر 2005م الموافق 28 رجب 1426هـ

العزلة كحالة نفسية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في الآونة الأخيرة قيل لي أكثر من مرة إنني ابدو متشائما. هؤلاء القراء الرائعون الذين يدققون في الكلمات بعين فاحصة وذهن مفتوح دون أحكام مسبقة قبل البحث عما يرضيهم، إنهم محقون، فقد راجعت مقالاتي التي كتبتها في الشهرين الماضيين، فوجدت نفسي أسأل: "ما الذي أصابني"؟

اجد نفسي مثل جار استنفذ كل قواه من أجل مصالحة جيران متخاصمين تفننوا في إظهار كل أشكال العداء لبعضهم. فأن تتحلى بالصبر أوالتفاؤل أوالتشاؤم كلها عوامل يقررها الآخرون وليس انت. وطالما ان المفهوم الرائج للكتابة مازال يدفع اصحابها الى التعليق على ما يجري، فإن هذا بالضبط هو الذي يؤثر الى حد بعيد في صوغ مفرداتنا بكل ما تنطوي عليه من مدلولات.

لا يشبه البحرينيون أي شعب آخر، هل هذا اكتشاف؟ ليس كذلك. وهل يشبه العراقيين الليبيين مثلا؟ أو هل يشبه الجزائريون العمانيين؟ وهل يملك بقية العرب الشغف بالحياة مثلما هي الحال مع اللبنانيين؟

حقا، لا يشبه البحرينيون اي شعب آخر، وإذ يقطنون بلدا لا تزيد مساحته على 711,9 كيلومترا مربعا فهم اقرب لسكان الجزر المعزولة منهم الى سكان جزيرة واحدة صغيرة. وفي السنوات الثلاث الماضية وحتى اليوم، برهن البحرينيون بجدارة على العزلة بمعناها الاشمل. فهي غدت نوعا من حالة ذهنية ونفسية مسيطرة، تقيم الحواجز وتصنع السدود بجدارة وما من ميدان يمكن ان يبرهن على هذا سوى هذا الميدان المستجد لدينا: الميدان السياسي.

لن اسرد التفاصيل فأنتم تعرفونها جيدا، لكن ما جرى هو ان هذا الاستغراق في السياسة اظهر حال العزلة هذه وعمل على ترسيخها. والاسوأ انه راح يعيد انتاج عوامل التأزيم التي اختفت بفعل الحداثة لكي يكرس حال العزلة لكن بعناوين مستجدة. السبب بسيط جدا: لأن ما يجري يعيد السياسة الى جذر بسيط جدا: سنة وشيعة.

هل السبب يكمن في ان القوى الدينية من الطائفتين هي التي تقود الجمهور سياسيا؟ هذا صحيح. وأن تبرز هذه القوى فهذه حقيقة مجردة من حقائق التاريخ، لكن ان تقدم نموذجا متقدما او العكس في السياسة فهذا امر آخر.

الثمار واضحة ولا تحتاج الى تفصيل اكثر، واذا كان ثمة امر كتبنا عنه في السنوات الثلاث الماضية وحتى اليوم فهو هذه الحال من انعدام الفعالية والشلل والانقسام العميق.

الخلاصة هنا ان مفهوم المواطنة هو الخاسر، فالنقد يوجه الى هذا الناشط السياسي وغيره باعتباره سنيا او شيعيا وليس مواطنا له الحق في التعبير عن رأيه. والحقوق يتم المطالبة بها ضمن هذا التقسيم الحديدي نفسه ومعها يصبح لمفردات مثل: الشعب، المواطنين، العدالة، الشفافية مدلولات اصغر. هل اضيف: أخطر ايضا.

في اقصى المشهد، نحن نمارس حرياتنا وحقنا في التعبير والنشاط السياسي استنادا لمرجعية: الدستور والميثاق الوطني. لكننا لم نسمع في يوم اعتراضا على قانون او اجراء او خطة او تصرف على اعتبار انها مخالفة للدستور. المكان الامثل لاختبار هذه المفارقة هو البرلمان. كل النقاشات المثيرة للجدل حول القوانين والشجار والاصوات الغاضبة والاشتباكات اللفظية والجسمانية ايضا لم تتردد فيها عبارة بسيطة: مخالف للدستور. وان يحدث هذا في بيت الشعب، فان هذا معناه ان ممثلي الشعب يبرهنون بشكل آخر على انهم نتاج طبيعي لحال العزلة هذه التي يحياها البحرينيون.

في العام ،2001 توجه الشيخ عبدالامير الجمري "عافاه الله" الى جمعية الاصلاح في المحرق وجلس على المنصة مع رئيس جمعية الاصلاح الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة ومعهم رئيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي عبدالرحمن النعيمي. واذا استذكرتم الكلمات التي قيلت والتي ظهرت في اليوم التالي على صدر الصفحات الاولى للصحف ستدركون الفارق. ستتلمسون حال العزلة اذا ما قارنتم تلك اللحظة بما يجري اليوم.

ابسط استنتاج سيقفز الى الذهن: لماذا لم تتكرر مثل تلك اللقاءات؟ ولماذا لم تؤسس لعلاقة متنامية؟ ولماذا اعقبتها هذه الحال التي تشبه القطيعة بين رجال الدين السنة والشيعة حتى على مستوى الحياة اليومية؟ تحيات في المناسبات والاعياد على الأقل قبل ان نقول تنسيقا بالحدود الدنيا.

الزعماء السياسيون ليسوا بأفضل حال، فعلى رغم اللقاءات التنسيقية وعلى رغم الاجتماعات والبيانات المشتركة النادرة ايضا، فإن العزلة غدت اكثر من حال طارئة مستجدة، بل حال يتم تغذيتها بدأب. السبب ان الاحساس بالمغايرة لا يمكن ان يكون حقيقيا الا بنقد الآخر. هل قلت نقد الآخر؟ انني مترفق كثيرا ولاشك، فمن مناكدات الاتباع الصغار الى خصومات الكبار، الذين لا يملكون علاقات انسانية دافئة ايضا، العزلة حال متوارثة تؤكد لنا انها خاصية بحرينية.

هل تأذت مشاعركم بموت اكثر من الف عراقي على جسر الائمة؟ حسنا، لقد قال الشيخ علي سلمان في خطبته امس ان الحادث لا علاقة له بالتسنن او التشيع ورأى ان جسر الائمة يوحي برابطة الاخوة والوحدة الاسلامية اذ يربط بين ضريحي الامامين الجوادين "ع" في الكاظمية وضريح الامام ابي حنيفة "رض" في الاعظمية. ما الذي يمنع من صدور اعلان مدفوع موقع من قبل جمعيات دينية سنية وشيعية تعزي العراقيين وتثبت لنا ان بإمكاننا ان نحلم بأن نلمس في يوم علامة على الرشد وان الوحدة الوطنية ليست لازمة خطابية فحسب

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1093 - الجمعة 02 سبتمبر 2005م الموافق 28 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً