قبل نحو 600 سنة صاغ ابن خلدون في مقدمته نظرية عن التطور كان لها وقعها وتأثيرها على الكثير من المفكرين والفلاسفة وعلماء السياسة في الشرق والغرب. مقالات "المقدمة" ترجمت باكرا إلى اللغات الأوروبية واطلع عليها معظم الباحثين في الفلسفة والتاريخ وتأثروا بها سلبا وإيجابا وتحولت عند بعضهم إلى مرجع أساسي وأحد مصادر التجديد في علم الاجتماع "العمران" وفلسفة التاريخ "نظرية التطور".
الفكرة التي قال بها ابن خلدون غريبة فعلا وهي لاتزال صالحة للاستخدام في حال جددت عناصرها وأعيد ترتيبها بلغة معاصرة.
الفكرة بسيطة، ولكنها في جوهرها مخالفة لكل التوقعات، فهي من النوع الذي يصدم التفكير ويضعه في موقف متردد بين الموافقة عليها أو رفضها.
تقوم نظرية ابن خلدون عن التطور على قاعدتين أساسيتين: الأولى أن "المتخلف" يتغلب على "المتقدم". والثانية أن "الغالب" يتأثر بـ "المغلوب" ويقلده.
نظرية ابن خلدون عن التطور الاجتماعي صادمة للتفكير فهي قياسا بنظريات علم الاجتماع المعاصر مقلوبة على رأسها أو معكوسة. فالنظريات الحديثة تقول عكس ما ذهب إليه وهي تجمع على أن "المتقدم" يتغلب على "المتخلف" وأن "المغلوب" يقلد "الغالب" ويتأثر به.
كل النظريات المعاصرة عن الاجتماع "العمران" تذهب إلى الضد من فكرة ابن خلدون عن التطور، مع ذلك هناك الكثير من علماء التاريخ والفلسفة يقفون باحترام أمام هذه النظرية التي استندت إلى وقائع تاريخية لتأكيد صحتها. فابن خلدون لم يخترع الفكرة وإنما استنتجها واستخلص عبرها من حوادث التاريخ. فصاحب المقدمة درس وراجع كل المؤلفات المعروفة في عهده ولاحظ من خلال المتابعة "وسيرته الشخصية" أن القبيلة تنتصر على الدولة في نهاية مطاف تطورها من البداوة إلى الاستقرار. وبعد أن تستقر القبيلة في دولة "غالبة" تبدأ بالاستفادة من تجارب الدولة "المغلوبة" وتعيد تأسيس دولتها وفقا لشروط المغلوب وثم تجدد عناصر قوتها وتندفع بها نحو المزيد من التقدم والاستقرار. وبعد أن تستقر الدولة الجديدة تبدأ عناصر التلاشي والتفكيك في الجيل الرابع... لتأتي بعدها قبيلة جديدة وصاحبة شوكة وعصبية ودعوة لتغلب السابقة وتعيد إنتاج دولتها. وهكذا يتطور الزمن والعمران ويتراكم وفق دائرة من الصعود والهبوط ثم الهبوط والصعود ضمن سياق تاريخي - تراكمي لا يعيد الحلقة إلى عناصرها الأولى وإنما يبني عليها "الغالب على المغلوب" ليتقدم خطوة إلى الأمام.
التاريخ عند ابن خلدون يكرر نفسه ولا يكرر نفسه. فالحركة "الصعود والهبوط" واحدة ولكن مضمونها الاجتماعي "العمراني" يختلف بين لحظة تاريخية سابقة ولحظة لاحقة.
هذه النظرية الخلدونية عن التطور صدمت مختلف الباحثين في الاجتماع والتاريخ وانقسمت المدارس الأوروبية في فترة نهضة القارة عليها بين مؤيد ومعارض ومتفهم لها بصفتها تتحدث عن تاريخ خاص ومحدد لا صلة له بأوروبا والتاريخ المعاصر. إلا أن هذه النظرية المتماسكة في منطقها الفلسفي وشواهدها التاريخية أثارت مخيلة عشرات المؤرخين والفلاسفة فاستفادوا منها واستخدموها في قراءات مختلفة عن صعود الغرب وهبوطه وعن صعود الشرق وهبوطه وعن صعود الحضارات وسقوطها... وصولا إلى الكلام عن صعود أميركا وهبوطها وأحيانا عن هبوط الصين وصعودها مجددا.
الدنيا مداولة. فمرة تكون القوة هنا ومرة هناك. وبين هذه وتلك تحصل الكثير من التطورات وتحدث تحولات غير محسوبة وتؤدي إلى نتائج معكوسة "مقلوبة". فالوقائع المحسوسة تشير أحيانا إلى أن المتقدم لا يتغلب دائما على المتخلف "حرب فيتنام مثلا" وأن الغالب لا يستطيع دائما فرض شروطه السياسية بالقوة العسكرية على المغلوب "نكبة فلسطين مثلا".
المسألة إذا معقدة وليست بسيطة "ساذجة" كما يراها بعض "اليساريين" و"العلمانيين". فليس غريبا مثلا أن نرى غدا احتمال نجاح قبيلة البشتون "الأفغانية" في التغلب على الاحتلال الأميركي أو منعه من تحقيق أهدافه.
الأيام مداولة وليست دائما تأتي لمصلحة "المتقدم". فالتاريخ مثلا سجل انتصار القبائل الجرمانية المتخلفة على حضارة الرومان "روما". ومن يدري فقد يكرر التاريخ نفسه في أفغانستان والعراق. وهذا موضوع آخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1093 - الجمعة 02 سبتمبر 2005م الموافق 28 رجب 1426هـ