العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ

البهلول في رحلته الأخيرة

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لم أكن أتوقع أن ألقاه محمولا على الأكتاف. شيخ كبير، كان يقترب من إكمال المئة عام، مع ذلك لم أكن أتوقع أن ألقاه محمولا على الأكتاف. ذهبت إلى مشهد في رحلة سياحة دينية، وكان يراودني أمل أن ألقى هذا الرجل المنبعث خلسة من أعماق التاريخ، ولو كان طريح الفراش لا يقدر على الحركة، ولكن الغيب كان يرتب للقاء بطريقة أخرى.

في مساء اليوم الثاني لوصولي إلى مشهد، فوجئت بالتلفزيون الرسمي يذيع بيانا لمرشد الجمهورية في إيران ينعى فيه "الشيخ محمد تقي البهلول"، مع الإعلان عن تشييعه غدا في مشهد.

في الغد، بينما كنت أتجول مستطلعا أرجاء مشهد الإمام الرضا "ع" التي أزورها لأول مرة في حياتي، فإذا بي أدخل مصادفة مسجد "جوهرشاد"، لأكتشف وجود آلاف من الناس، في مجلس عزاء. الحدس وحده دلني على أن هؤلاء جاءوا لتأبين الشيخ البهلول. جلست حيث انتهى بي المجلس، وقد بدأ الحفل متأخرا ساعة واحدة عما أعلنه التلفزيون.

في البداية تليت آيات من الذكر الحكيم، ثم قدم عريف الحفل تعريفا بالفقيد الكبير، وكيف تصدى لاستبداد رضا شاه وطغيانه، في وقت تقاعس عن ذلك كثيرون، حتى اتهموه بالجنون. وتلي بيان الخامنئي ثانية، ثم ألقيت عدة كلمات رسمية: للواعظ الطبسي سادن الروضة الرضوية، ولممثل مشهد في البرلمان، ولإمام الجمعة فيها. وجدت نفسي غريبا في المعمعة، فلم أكن ألتقط من كل ذلك غير الأسماء وبعض الكلمات العربية التي تزدحم بها الفارسية. ثم شرع عريف الحفل يسرد أشعارا بالفارسية، وأخذت نبرة العاطفة تعلو وبدأ الناس في النحيب. شعب يكفي لإلهاب عاطفته ذكر اسم الحسين وكربلاء.

بعد ذلك أعلن عن بدء تحرك الموكب، إذ ستطوف الجنازة ببعض الشوارع الرئيسية في مشهد، ثم تنقل إلى مسقط رأسه، مدينة كناباد، في موكب من السيارات. هنالك اغتنمت الفرصة لأشق طريقي نحو النعش لكيلا تفوتني هذه اللحظة التاريخية. كان الزحام شديدا والصفوف متراصة، مع ذلك حرصت على الوصول إلى النعش. حشرت نفسي بين الصفوف، وأخيرا تمكنت من ملامسة النعش وهو يرفع عن الأرض. مشيت مع المشيعين عدة أمتار مشاركا في حمل نعش الرجل الكبير، وكانت ذاكرتي تسترجع بعض المقتطفات من "مذكرات الشيخ بهلول". هذا الجسد الصغير المحمول على النعش قضى 31 عاما في سجون أفغانستان "فالاتفاقات الأمنية بين العروش قديمة قدم الطغيان" هذا الجسد الصغير قضى نصف قرن في مقارعة استبداد الشاه رضا، ذلك العسكري الأمي في الجيش القاجاري، والذي لم تعثر "بريطانيا العظمى" على عبد مطيع أفضل منه لتنصبه "شاه إيران"، لينفذ سياساتها الامبراطورية، فشرع الغبي في تنفيذ برنامج "إصلاح إيران" بإجبار رجالها على اعتمار القبعات الأجنبية، ونزع حجاب نسائها، حتى أرسل زوجته إلى معقل الحركة الدينية "قم" لتصعد على سطح الحرم من دون حجاب لتدور مثل القطة البلهاء!

هذا الشاه السفيه، وقف له الشيخ البهلول في هذا المسجد نفسه "جوهرشاد" قبل خمسة وسبعين عاما، مسفها لآرائه، مصطدما بجلاوزته، متحديا لجبروته، متحملا الملاحقة والمطاردة والسجن والتعذيب.

الشاه الأخرق بعد أن انتهت صلاحيته طرده البريطانيون إلى جنوب إفريقيا، وأحضروا ابنه الأكثر سفاهة ليحكم إيران، بحيث تكون بقرة تدر حليبا وعسلا ونفطا. وشاء الله أن ينتهي هذا الابن الغر طريدا ليموت في القاهرة، لاجئا عند صديقه السادات، بينما عاد البهلول إلى وطنه ليشهد ملحمة التحرر من التبعية للغرب... وليقضي آخر أيامه مريضا في المستشفى، ليخرج من المستشفى إلى مسجد "جوهر شاد" محمولا هذه المرة على الأكتاف، في مطلع شهر أغسطس/آب .2005

وفيما وقفت على جانب الرصيف حزينا حزينا... كان يراودني الأمل أن ألقى هذا الرجل المنبعث خلسة من أعماق التاريخ، وشاء الله أن ألقاه محمولا على الأكتاف. كانت الجنازة تبتعد قليلا قليلا... فيما يحمل مئات من المشيعين النعش وهم يتبعون البهلول في رحلته الأخيرة.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً