طوال فترة الثمانينات من القرن الماضي كانت الحرب العراقية - الإيرانية تلقي بظلالها منذ اندلاعها في العام 1980 وحتى توقفها في العام . 1988 ومباشرة بعد اندلاع الحرب، اصطفت دول الخليج - بشكل عام - مع العراق ضد إيران، وعانى المواطنون الشيعة في عدد من الدول الكثير بسبب ذلك.
كانت الحكومة البحرينية قبل 1981 تسمح لمن يود الالتحاق بالمدرسة "الحوزة" الدينية في العراق أو إيران بالالتحاق وتسمح لمن يود استضافة عالم دين وخطيب حسيني من العراق أو إيران بذلك، إلا أن كل ذلك توقف منذ 1981 واستمر حتى بداية المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة في مطلع .2001
فترة الثمانينات كانت مؤلمة في كثير من النواحي. فقد بدأ العقد الثمانيني بانتصار لحركة شعبية ضد ظلم الشاه، وفرح العرب بعد انقلاب الحكم في إيران من حليف للاسرائيليين إلى حليف للفلسطينيين... ولكن سرعان ما انقلبت كل تلك الأمور رأسا على عقب.
وقد جاءت نهاية الحرب العراقية الإيرانية في العام 1988 على نحو عزز قدرة النظام البعثي العراقي الذي بدأ يتحرك وكأنه "سيد الخليج". البحرينيون كانوا متضررين - سواء كان ذلك على مستوى الحكومة أو الشعب - من وجود دولة تدعي سيادة الخليج. فلقد وقف شعب البحرين بكل فئاته مع استقلال البحرين في العام ،1971 ورفضوا ادعاءات سيادة إيران عليهم. وجاءت الثورة الإسلامية في 1979 وبعثت الأمل في بدء "عصر الشعوب" ولكن الاوراق اختلطت كثيرا، ورغم كل ماحدث وما قيل، فإن شعب البحرين عبر عن إرادته ذاتها، وهي البقاء مستقلا تحت سيادة الحكم الدستوري الذي وافق عليه، ولذلك فان النمط العام لتحرك المعارضة كان مطلبيا.
العقد الثمانيني سبب جروحا كبيرة في أوساط البحرينيين، وبعد ان كانت البحرين في مقدمة الدول الخليجية، تقريبا في كل شيء له علاقة بالتطوير والتحديث، وإذا بنا نصاب بانتكاسة بسبب اضطراب الوضع السياسي.
نهاية الثمانينات كانت حزينة اعطت لنظام البعث طموحا توسعيا، ولذلك فإن صدام حسين الذي افتتح ذلك العقد بحرب مدمرة ضد إيران كان يستعد في مطلع العقد التسعيني لحرب أخرى وهذه المرة ضد الكويت.
تفريغ الأفكار وتفريخ الشعارات
فترة الثمانينات من القرن الماضي شهدت تحولات كبيرة في مختلف النواحي، ومن تلك التحولات ان ذلك العقد بدأ بمستوى رفيع "نسبيا" في الفكر والحوارات وانتهى إلى مستوى متواضع من الشعارات التي لم تكن غنية بالمحتويات الفكرية أو السياسية، مثل تلك التي كان يسعى إليها الناشطون الذين ضحوا بالكثير من أجل ان تتحسن أوضاع مجتمعاتهم نحو الأفضل.
في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات كانت الحركة الإسلامية الشيعية تهتم بكوادرها من الناحية الفكرية. ومثال على ذلك حزب الدعوة الاسلامية، اذ قبل ان يتأهل أحد الأشخاص للانضمام إلى الحزب كان عليه ان يقرأ عدة كتب، من اهمها "خطوات على طريق الإسلام" للسيد محمد حسين فضل الله، ومؤلفات فتحي يكن "أحد مفكري الإخوان المسلمين" وكتاب "الدعوة والعقبات" الذي كان قد اصدره الحزب باسم مؤلف "ربما كان الاسم وهميا" وهو "كاظم النقيب". وقد شجع الحزب في البحرين على استصدار رخصة لاعادة طبع وتوزيع كتاب "الدعوة والعقبات" في البحرين في مطلع الثمانينات، وكان يطلب ايضا من كوادره قراءة كتب السيد محمد باقر الصدر وتدريسها.
وبما ان كتب الصدر ذات مستوى عال، فقد قام الحزب بتنظيم حلقات متخصصة في عدة مناطق من أجل شرح مضامينها واستخدامها منطلقا لفهم الفكر الرأسمالي والفكر الماركسي ومن ثم محاورتهما على اساس إسلامي.
لقد كانت الكوادر الإسلامية غنية من ناحية العطاء الفكري، وكانت الحلقات الحوارية تعتبر اساسا لا يمكن التنازل عنه قبل البدء بتنظيم الاشخاص ضمن الهيكليات الحزبية. نعم كانت هناك حوارات "عقيمة" في بعض الاحيان، وكانت هناك تنظيرات "شمولية" في احيان أخرى، ولكن اساس العمل كان يعتمد على أفكار مطروحة للنقاش، وهذا هو النهج السليم في العمل السياسي. لان العمل القائم على الحوار المستمر بإمكانه ان يطور افراده وبإمكانه ان يتحرك مع التطورات الزمنية والمكانية.
انتصار الثورة الإسلامية في إيران ساهم في دخول "افواج" كبيرة من الناس إلى أوساط الحركة الإسلامية، وهذه الافواج لم يكن هناك من يستطيع استيعابها واغناءها فكريا. كما ان الثورة الإيرانية زعزعت كثيرا من المفاهيم الجامدة أو التقليدية الحزبية، وهو ما ادى إلى نشوء اتجاهات "تسخف" الفكر والنشاطات الحوارية وتتحدث عن "العمل" أولا، وعن "التحرك" بسرعة، وعن "الحماس الثوري"... وعليه فإن كل ما تحتاجه هذه الافواج من الناس مجرد مجموعة من الشعارات التي يتم ترديدها في المناسبات، بل وحتى بعد الصلوات اليومية.
الثورة الإسلامية الإيرانية فقدت تقريبا كل مفكريها بعد سنة أو سنتين من انتصارها، مثل مطهري ومفتح وبهشتي. الحوزة العلمية في النجف الاشرف اصبحت تحت حصار حكومة البعث في العراق وبقاؤها طوال فترة حكم صدام حسين يعتبر معجزة بحد ذاته، لان تقتيل علماء الدين لم يتوقف منذ ان تسلم صدام الحكم وحتى سقوطه بعد نحو ربع قرن في .2003
الغريب ايضا هو ان الحوزة العلمية في قم المقدسة لم تنتج علماء كبارا كما كانت في الماضي. وفي ندوة عقدت في لندن العام 1999 بمناسبة مرور عشرين عاما على انتصار الثورة الإسلامية، تحدث أحد علماء الدين الإيرانيين عما انتجته حوزة قم المقدسة... ولكن بعد ان انتهى من محاضرته كان أول تعليق على ما طرحه هو ان جميع من تم ذكرهم كانوا في الفترة التي سبقت انتصار الثورة في .1979 فالفيلسوف السيد محمد حسين الطباطبائي، صاحب أهم تفسير حديث للقرآن للمسلمين الشيعة "الميزان"، والمفكر مرتضى مطهري وغيرهما من الاسماء، جميعهم ينتمون إلى الفترة التي سبقت العام .1979 وهذا هو حال النجف الاشرف الذي انتج امثال السيدمحمدباقر الصدر، ولكن كل هذا يتعلق بفترة ما قبل العام .1979
ضمور العمل المؤسسي
صاحب هبوط النشاط الفكري داخل الحركة الإسلامية الشيعية ضمور للعمل المؤسسي لأسباب عدة.
فلو رجعنا إلى مطلع الثمانينات سنجد ان هناك مؤسسات رائدة في عدة مناطق استراتيجية. ففي لندن كانت هناك "رابطة الشباب المسلم" التي كانت رائدة في عملها المؤسسي، وفي البحرين كانت "جمعية التوعية الإسلامية" تزداد قوة ونشاطا وكانت لديها مدرستان للبنات ومعهد عال وشبكة من الحلقات النقاشية في مختلف ارجاء البحرين، بالاضافة إلى مؤتمر فكري سنوي. وفي الكويت كانت هناك "جمعية الثقافة الاجتماعية" التي كان يوازي نشاطها ما كانت تقوم به جمعية التوعية في البحرين، بل أكثر من ذلك في كثير من الاحيان. وفي الكويت أيضا كانت هناك "دار التوحيد"، وهي مؤسسة نشر استطاعت خلال السنتين الأوليين من ثمانينات القرن الماضي ان تنشر الكتاب الإسلامي "الحجم الصغير" في مناطق واسعة من العالم وكانت كتيبات الدار توزع مجانا عبر البريد واستفاد من ذلك اناس كثيرون.
غير ان جميع هذه المؤسسات اما انها انهارت "كما هو حال رابطة الشباب المسلم في لندن"، أو انها اغلقت "جمعية التوعية في البحرين ودار التوحيد في الكويت" أو انها جمدت "جمعية الثقافة الاجتماعية في الكويت"، وهذه المؤسسات كانت تسير ضمن ما كان يطلق عليه عموما "خط الدعوة" وكانت توفر دعما مؤسسيا للنشاطات الإسلامية المعتمدة على الفكر والحوار والتفاهم.
في منتصف الثمانينات اختفت هذه المؤسسات من الساحة، والنشاطات التي بقيت اعتمدت على مبادرات هنا وهناك، وكانت هذه المبادرات عرضة للضغوط الشديدة. ففي داخل البحرين، كان البديل لغياب المؤسسات هم طلاب الجامعات الذين كان لهم دور مشهود في تماسك النشاطات وحفظها من الانهيار التام بعد غياب المؤسسات العلنية والسرية آنذاك.
وفي لندن، قامت المجموعة اللندنية بطرح بدائل مؤسسية ولكنها اقتصرت على دوائر محدودة. وحتى في هذه الحال كانت عرضة لضغوط كبيرة. فقد كانت هناك "الرحلة"، أو المؤتمر المصغر، الذي يجمع الطلاب مرة أو مرتين في السنة، ولكن بدأ البعض يستهدف هذا النشاط، بدعوى ان الساحة الاسلامية لا تحتاج إلى أي نوع من الاعمال التنظيمية التي لا تندرج في اطار الاسلوب الجماهيري الذي يقوده علماء الدين. وهذا كان يعني تفكيك العمل المؤسسي القائم واستبداله بترتيبات هلامية. وفعلا، بدأ الكثيرون يختفون من النشاطات، فيما صمدت المجموعة اللندنية البحرينية على رغم قساوة الظروف.
كانت هناك مزايدات كثيرة حلت محل الحوارات، محورها مفهوم "خط الامام الخميني"، وان احترام شخصية الامام الخميني يعني "الذوبان". وعبارة "الذوبان" كانت تتكرر، وفي بعض الاحيان كان البعض يستخدم جملة للسيد محمد باقر الصدر تنقل عنه قبل استشهاده "ذوبوا في الامام الخميني كما ذاب في الإسلام". ولكن معنى المقولة ومدلولاتها تختلف كثيرا بين من يرددها. فبعض المجموعات كانت تطرح معنى إلغاء كل الاعمال المؤسسية وربطها بتشكيلات اقرب إلى مفهوم "الشيخ ومريديه"، بمعنى وجود شخصية دينية تطرح نفسها ضمن شعارات محددة ومدعومة بخطاب روحاني، وحوله يلتف المريدون لترديد الشعارات...
العمل المؤسسي عموما تدهور في الثمانينات، ومن قاوم "الذوبان" كان عليه ان يتحمل المعاناة و"العقوبات" التي سيتلقاها باستمرار من مختلف الجهات.
من "صدى الإسلام" إلى "أخبار المسلمين"
احدى التجارب التي كانت قريبة من المجموعة اللندنية البحرينية كانت مجلة فكرية تصدرها "رابطة الشباب المسلم" باللغة الانجليزية وتحمل اسم "صدى الإسلام"، ISLAMIC ECHO وكان يرأس تحريرها أحد المسلمين الشيعة من الهنود الخوجة واسمه "أحمد وارثي" AHMED VERSI. وكان وارثي يشرف على مواد المجلة ويحررها ويستعين بمترجمين متخصصين، وكانت مجلة فكرية رائدة "استمرت من نهاية الستينات حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي"، وكان عليها طلب كبير من المؤسسات الاكاديمية والمهتمة بالفكر
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ