الكارثة التي وقعت في بغداد في مناسبة ذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم "ع" شكلت فاجعة لكل المسلمين والعرب. فالكارثة هزة إنسانية بغض النظر عن أسبابها ومسبباتها وهي لحظة للذكرى يقف امامها كل إنسان مؤمن بالله والآخرة.
هذه الفاجعة الإنسانية يفترض ان تشكل نقطة لقاء وتضامن ووحدة وهي هكذا للكثير من المؤمنين بالله والقدر. إلا أنها للأسف تحولت عند الطائفيين والمذهبيين إلى فرصة لذر الرماد واشعال الفتنة والتحريض عليها سواء باختلاق الاعذار أو تفسير النتائج. فالطائفي كما يبدو لا يستطيع الخروج عن طوره الفاسد حتى في تلك اللحظات التي تتطلب اليقظة والاعتبار. والمذهبي أيضا لا يستطيع ان يقرأ كل الحوادث والتحولات الا في أطر مذهبية تعطل دائما إمكانات التفكير في الشائعات والوقائع.
بين الشائعات والوقائع حاول الطائفيون استغلال الفاجعة الإنسانية لمآرب سياسية لا تخدم في النهاية سوى مشروع الفتنة المذهبية الذي اشتغل عليه الاحتلال منذ دخول القوات الأميركية العراق ونجاحه في تقويض الدولة.
مشروع الفتنة كما يبدو بات أقرب إلى النجاح من الفشل وخصوصا مع وجود طائفيين ومذهبيين يصطنعون المشكلات ويجيشون النفوس لمنع نهوض وحدة سياسية تقوم على أسس مشتركة تعيد إنتاج دولة عادلة ومتوازنة تجدد دور العراق في دائرته الإقليمية وتطرد الاحتلال وتستعيد السيادة.
ما كادت الكارثة تقع حتى أخذت اصابع الفتنة تبث الشائعات وتحيل وقائع الفاجعة إلى نوع من تفسيرات تميل إلى تقديم تحليل طائفي للمأساة. فهناك من قال إن سبب التدافع يعود إلى سريان شائعة بين الحجاج مفادها ان انتحاريا اندس بين الجموع ويريد تفجير نفسه. وعزز الشائعة ما قيل عن وجود احزمة ناسفة تريد تفخيخ الجسر وهدمه. وتضخمت الشائعة بسماع البعض أصوات انفجارات وقصف بالقذائف على المحتشدين في صحن مرقد الإمام الكاظم... وهكذا جرت الحوادث وحصل التدافع وسط ازدحام البشر وسريان الشائعات فوقعت الكارثة.
بعد حصول الفاجعة استكمل أصحاب الفتنة مشروعهم في التحريض. وبما أن الطائفية موجودة في مختلف المناطق والمذاهب فقد سرت الشائعات وتنقلت من مكان إلى آخر متجاوزة المحنة الإنسانية وما تتطلبه من قدرات واعية تتغلب على المأساة وتتجاوزها لمعرفة ما حدث، وما هي الحقيقة في كل ما جرى.
المشكلة في البلدان العربية "والإسلامية عموما" ان الطائفية واولادها اقوى من كل العناصر الأخرى. فالطائفية ليست مجرد مرض نفسي "عصابي" أصيب بها بعض الأفراد وانما هي وفي لحظات التوتر والاستقطاب المذهبي سياسة تتحصن وراء قلاعها "التاريخية" و"الثقافية" الجموع والجماعات. فالطائفية مشكلة اجتماعية وعلاقات وأنظمة وشبكات أهلية استنسخت بعضها على مجرى العقود الزمنية وتحولت إلى نوع من العصبية التي تحرك العقل وتصنع التفكير وتعطي الذرائع لكل من يريد ان يقرأ الدنيا ضمن تصورات ضيقة.
هذه الانقسامات الأهلية الضيقة الموزعة على علاقات وأنظمة وثقافات ليست خافية على المحتل وأصحاب الفتنة. فالمحتل ومن معه من دعاة الانقسام والتفتيت والعزلة اشتغل على الفتنة الطائفية - المذهبية منذ اللحظات الأولى التي اتخذ فيها قرار الحرب على العراق. والاحتلال قبل ان ينفذ مشروع الغزو كان على اطلاع على سياسة النظام السابق وعلى بينة من مخططاته التي أسست في القاع كل ذاك التشرذم الأهلي الذي ظهر إلى السطح فور انهيار الدولة واختفاء النظام وتفكك القبضة الحديد.
ما يحصل في العراق اليوم هو نتاج سياسة طائفية "عشائرية" نجح الاحتلال في اللعب عليها وتطويرها وتوظيفها خدمة لمشروع يقضي بتقسيم الدولة إلى دويلات "أقاليم" متنافرة. والاحتلال ليس غبيا كما يظن البعض أو كما تحاول واشنطن الادعاء بجهلها لتركيبة العراق وتكويناته وانقساماته الظاهرة والخفية. فالاحتلال كان يدرك منذ اللحظات الأولى ان صورة العراق ستتغير بعد انهيار النظام وتقويض الدولة. وان الدولة التي ستغيب لن تعود إلى صورتها الأولى وانما ستنهض مجددا من تحت الانقاض في صور وحكايات ودويلات.
مشهد المأساة في الكاظمية هو يوم حزن وقع في فترة تتسابق فيها اللحظات الحزينة لترسم صورة عن عراق مهشم لا يتصل بالماضي وغير موصول بالمستقبل. فالعراق اليوم هو لحظة حزينة في حاضر تائه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1091 - الأربعاء 31 أغسطس 2005م الموافق 26 رجب 1426هـ