زارَ أحمدي نجاد لبنان كما زاره خاتمي من قبل. الزيارة جَرَت في جو جِدُّ مختلف عن زيارة سلفه في مايو/ أيار من العام 2003. فلا إيران هي إيران ولا لبنان هو لبنان، ولا الكيان الصهيوني هو الكيان الصهيوني ولا الإقليم هو الإقليم ولا العالَم هو العالَم، ولا ميزان القوى هو ذاته الذي يحكم.
في إيران باتت مقاليد الحكم في يد أقصى اليمين المحافظ. وفرز الأفرقاء اليوم بات أكثر فصلاً. وملفها النووي لم يعد ينفع معه لا اتفاق باريس واحد ولا باريس اثنين. والتهديدات ضدها باتت حاضرة على كلّ طاولة تفاوض. ولم تكن هناك خمسة قرارات أمميّة صادرة ضدّها بعد.
في لبنان، كان الرئيس رفيق الحريري موجوداً. وكانت سورية حاضرة في ربوعه بتناغم إقليمي يجترّ حاله من تفاهمات الطائف. ولم يكن هناك قرار يحمل الرقم 1559 ولا القرار 1701 ولا حرب تمّوز، ولا تبادل أسرى، ولا خلافات لبنانية لبنانية، ولا تكتل الثامن ولا الرابع عشر من آذار.
وفي الكيان الصهيوني كانت هناك خارطة طريق معروضة. وكانت هناك هُدنة من قِبَل حركتي فتح وحماس مع تل أبيب على وشك الانتهاء. وكان هناك توقيع مرسوم من الرئيس الأميركي (جورج بوش الابن آنذاك) بمنح الكيان الصهيوني مساعدات بقيمة تسعة مليارات دولار، وكانت هناك مطالب صهيونية شارونيّة قاسية لدمشق، وكانت غزّة لاتزال مُحتلّة.
وفي الإقليم، وعندما كان خاتمي يزور لبنان لم يكن يمضي على سقوط بغداد سوى شهر واحد فقط. وكانت التهديدات الأميركية لدمشق تزداد وكأن الدور عليها، تعمّد لاحقاً بصدور ما يُسمّى بقانون محاسبة سورية. ثم ظهور توتّر تركي أميركي بسبب استخدام قاعدة إنجرلك.
أما العالَم، فإنه كان لايزال يمُوج على وقع ممانعة الفرنسيين الشيراكيين (نسبة للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك) والألمان الشرودريين (نسبة للمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر) للحرب على العراق. وكانت أسواق المال تُفاضل بين اليورو القادم بقوة من رحم الوحدة الأوروبية أمام الدولار. كما أن انهيار شركة أنرون للطاقة قد أَذِنَ بظهور اقتصاد أعرج.
وفي ميزان القوى، فإن روسيا «فلاديمير بوتين» لم تستأسد بعد لا داخلياً ولا في جوارها حيث القوقاز والنفوذ الأميركي فيه. وكانت أوكرانيا تسير ببطء نحو الثورة البرتقالية وانتخاب يوتشنكو القريب من الغرب. وكانت حينها الولايات المتحدة تُرسِل للتو 24 قاذِفَة إلى المحيط الهادي في الوقت الذي كانت فيه كوريا الشمالية تُطلق صواريخها «المعتوهة» باتجاه اليابان.
هذه القضايا بدءًا من الداخِلَيْن الإيراني واللبناني، ومروراً بالإقليم الملتهِب، ثم فضاء العالَم وميزان قوته لم تكن ببعيدة عن مِخْرَزِ الزّيارتَيْن من حيث الزمان وظروفه حين يتمّ ربضها بكُلِّيَّات الأمور وليس بأجزائها. وقد دوّنتُ عدداً من الملاحظات حول زيارة نجاد للبنان والتي لبعضها صلة مباشرة بذلك المجموع وبعضها غير مباشر هي كالتالي:
(1) بيّنت الزيارة أنها تأتي مُستجيبة لمتطلبات الدولة اللبنانية بتأكيد نجاد على تطبيق القرار 1701 وضرورات درء الفتنة الداخلية عبر الوفاق الوطني والتأكيد على التنمية الاقتصادية «عبر الإدارة الحكيمة والرشيدة والجيدة لدولة رئيس الوزراء» سعد الحريري الذي قدّم (نجاد) اسمه حتى في خطابه ببنت جبيل وبين خصومه السياسيين.
كما أنها بيّنت قدرة القيادة اللبنانية على وضع أولويات لبنان بشكل سليم وواضح، وهو ما تأكّد من حديث الرئيس ميشال سليمان لنجاد حول القرار 1701 وإلزام الكيان الصهيوني بالانسحاب من الأراضي اللبنانية وحق لبنان في استرجاع أراضيه بكل الوسائل المشروعة والتأكيد على الوحدة الداخلية والتنمية الاقتصادية. (راجع جلسة المباحثات الأوّليّة بين الرئيسَيْن في قصر بعبدا).
(2) بيّنت الزيارة وجود رغبة إيرانية بالدخول إلى لبنان عبر البوابة العربية والسعودية بالتحديد تأكيداً للدور المحوري والمهم الذي تضطلع به الرياض في لبنان. تجلّى ذلك بالاتصال الذي أجراه الرئيس أحمدي نجاد قبل وصوله إلى بيروت بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وطرحه خلال الاتصال المذكور موضوع بناء لبنان وحمايته وضرورة تجاوزه لـ «الظروف الحرجة» التي يمر بها.
كما أن الاتصال الذي أجراه نجاد بالرئيس السوري بشار الأسد، جاء ليعيد تأكيد طهران على دور دمشق في لبنان واجترار دورها هناك من خلال البُعْد التاريخي والجغرافي والاستراتيجي، مع التأكيد على التنسيق المستمر معها ضمن الحلف القائم بين البلدين «رسمياً» منذ العام 1982 رغم ظروف سورية المختلفة إقليمياً ودولياً.
(3) لقد أكّدت زيارة أحمدي نجاد للبنان أنها تكريس للتحالف العضوي مع حزب الله والجماعات الفلسطينية وتقوية لمواقفهم السياسية. كما أنها أكّدت (ومن خلال خطاب نجاد في الضاحية الجنوبية) على لغة الصِّدَام مع الخارج عبر توسيع نطاقه ليشمل أفغانستان وغزّة وتركيا بالإضافة إلى دول الأصل إيران ولبنان وسورية، بالاستفادة من أحوال تركيا المتبدّلة، وكذلك أفغانستان (المحادثات مع طالبان).
وربما حاكَى نجاد جغرافية المكان وديمغرافيته عندما قال ذلك، وقال ما هو أكثر منه. فالاحتفال الضخم الذي أقيم له في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث معاقل حزب الله وحركة أمل كان تعبيراً لعلاقة قديمة تداخل فيها البُعد الديني والسياسي والاستراتيجي منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران قبل واحد وثلاثين عاماً وإلى الآن. وكذلك الحال بالنسبة لخطابه في بنت جبيل والتي تحمل رمزيّة مهمّة للجنوبيين.
(4) لم تخلُ الزيارة من تسجيل «فرادَة استقبال» لم يُسجّلها لبنان لأي زعيم دولة سابق. فالتحشيد الذي قام به حزب الله وقامت به حركة أمل لإنجاح هذه الزيارة جعل من الأرقام والحوادث النادرة تُسجّل لأول مرة. وربما عُنِيَ في جزء منها إلى إثبات وجود وتكريس لواقع الحال. فَوَسْم نجاد بألقاب غاية في التبجيل والحفاوة لم يلقها خاتمي من قبل، دلّلت على رغبة مضيفيه في إعطائها طابعاً مختلفاً في السياسة والرمزيّة.
كما كانت الزيارة فرصة لتأكيد حلفاء إيران على طبيعة علاقاتهم بطهران وتقديمها «تاريخياً وحاضراً» وبوضوح يكشف حجم الانتماء السياسي والعقائدي الضارب حتى العظم. وأيضاً عبر كشف العديد من أسرار تلك العلاقة وخفاياها، وهو ما ظهر جلياً في الكلمة الترحيبية التي ألقاها السيد حسن نصرالله في الضاحية.
(5) كَسَرَت الزيارة حاجز البروتوكول المُتّبع عادة في الدول. فهي إلى جانب رسميتها إلاّ أن تماسها بالحالة الآيدلوجية والشعبية قد خَلَطَ الأمور بشكل لافِت، عبر ظهور نجاد من رأسه حتى خصره من سقف السيارة المُصفّحة التي تقلّه وهو يُحيّي مستقبليه من اللبنانيين على شارع المطار ومُفضياته. وربما كانت العفويّة الإيرانية التي عادة ما تصطبغ بها المهرجانات الرسمية في إيران وعدم التزام أحمدي نجاد بأعراف وقواعد الرؤساء والأمن الشخصي له ولوفده المرافق دورها في ذلك الكَسْر.
كما أن مُستقبليه في حَرَمِ المطار قد ضاعت رُتَبهم السياسية والعسكرية والدينية حين اختلطت بشخصيات لا تحمل أي صفة اعتبارية وخلافها. ففي الوقت الذي وقف فيه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي وعدد كبير من الوزراء والنوّاب والعسكريين في الاستقبال الرسمي لنجاد وقف أيضاً والدا السيدعباس الموسوي (الأمين العام السابق لحزب الله) وعماد مغنية (رئيس المجلس العسكري في حزب الله) الذي خاطب نجاد والده بالقول «إنني أقبّل فيك عماد» وهو أيضاً من ملامح ذلك البروتوكول الذي بدا وكأنه بلا آليات معروفة أو متعارَف عليها حتى عادة.
(6) أظهرت الزيارة أن حزب الله بخطابه السياسي والإعلامي (القَبْلِي والبَعْدِي للزيارة) هو أقرب إلى التيار المحافظ في إيران منه إلى التيار الإصلاحي. وربما لم تكن الحفاوة التي منحها الحزب لنجاد وحدها التي أظهرت ذلك، وإنما خطاب نصر الله ذاته أكّد ذلك عندما قال بأن وجود أحمدي نجاد في السلطة قد وسّع من دعم إيران لحزب الله والمقاومة، مع الإشادة بخطاباته السياسية في هيئة الأمم المتحدة وجنيف ونيويورك.
وربما دَرَجَ إعلام الحزب في الفترة التي تلت الانتخابات الإيرانية والاحتجاجات والأزمة السياسية التي أعقبتها على إبداء ما يتوافق مع تلك الرؤية ولكن بصورة غير فاقعة، عبر التأكيد على ثوابت اليمين المحافظ، وإبعاد أي صورة إعلامية سيّئة عن المحافظين، سواء عبر مراسلهم في طهران أو عبر تقاريرهم وبرامجهم الحواريّة.
(7) حاول فريق أحمدي نجاد السياسي أن يُبعِد زيارته عن الصبغة المذهبية والتأكيد على التعددية اللبنانية في إطار الوحدة. فالتقى نجاد خلال فطور صباح اليوم التالي من زيارته بعدد من مراجع الدين لطوائف مختلفة. فالتقى بالمطران رولان أبو جودة (ممثلاً للبطريريك صفير) والشيخ غاندي مكارم (الدروز)، والمطران سليم غزال (ممثلاً لـ غريغوريوس الثالث لحام)، والمطران وارطان اشكاريان (ممثلاً لـ نرسيس بدروس التاسع عشر)، والشيخ مالك الشعار، والشيخ أسعد علي عاصي، والشيخ بلال شعبان، والشيخ حسام قراقيرة، والشيخ حسان عبدالله، والشيخ ماهر حمود، والشيخ حسن عواد، والشيخ عبدالناصر جبري، والشيخ زهير الجعيد (كزُعماء تيارات دينية وسياسية سُنَّة) والشيخ أبوفيصل نصر الدين الغريب (العلويون) فضلاً عن زعماء دينيين وسياسيين من الطائفة الشيعية.
في كلّ الأحوال فإن الزيارة بدأت باضطلاع سعودي سوري عليها، وهو في حدّ ذاته تطمين لأطراف مختلفة في الداخل اللبناني وخارجه. وإذا ما استمرّ التنسيق ضمن هذا الإطار وبعيداً عن الاصطفافات فإنه سيعني الكثير ليس للبنانيين فقط وإنما لكل العرب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2964 - الأحد 17 أكتوبر 2010م الموافق 09 ذي القعدة 1431هـ
تحليل
الاستاذ الحبيب محمد ابو عبد الله
تعجبني كثيرا مقالتكم في الشان السياسي وتحليلاتكم وبالخصوص في الشأن الايراني وقد سررت لما قرات اليوم هذا المقال لانكم غبتم كثيرا عن تحليلاتكم عن الجمهورية الاسلامية في الاونة الاخيرة
مقال ممتاز وتحليل رائع
مقال ممتاز وتحليل رائع
كذلك التدخل الامريكي
كذلك التدخل الامريكي السافر في الشأن اللباني بعد الموقف الامريكي الرسمي الذي لم يرحب بالزيارة وابدى تخوفه منها ومن نتائجها وهو عكس الموقف الفرنسي
شكراً
ما لم يشر اليه المقال
ما لم يشر إليه المقال هو الدور الذي قامت به القوات اللبنانية العسكرية والأمنية من حماية الزيارة سواء في الطرقات أو الساحات العامة التي خطب فيها نجاد وهو امر غاية في الاهمية وينم عن تناغم ما بين حزب الله والدولة اللبنانية
مقال غاية في الروعة!!
كعادتك أستاذ محمد تبدع وتتميز كلما كتبت موضوعاً في الشئون الإيرانية لأنك بكل بساطة متخصص فيها.. بالمناسبة ضحكني واحد علق على مقال من مقالاتك يقول ذبحتنا إنت ويا إيران كأن ماعندك شي تكتبه غير إيران!! مسكين لاتعتب عليه ماعمره قرأ إن فلان كاتب متخصص في الشئون الكذائية.