من ناحية أخرى فإن ثمة إيجابية ولو ضئيلة في أطروحات ليبرمان رغم تطرفه وهي تتمثل في أربع نقاط: الأولى: اعترافه بوجود الفلسطينيين كشعب وحقهم في إقامة دولة على هذه الأرض مع إسرائيل، الثانية: اعترافه الصريح والعلني بأن حل النزاع يستغرق عدة أجيال. الثالثة: إنه صاحب فكر إيديولوجي واضح وليس مراوغ مثل شيمون بيريز وعدد من قادة حزب العمل. وهذا لا يعني اتفاقنا مع فكره أو تصوراته الرابعة: إن إيران يمكن أن تظل باقية بدون حزب الله وحركة الجهاد الإسلامي وحماس والعكس ليس صحيحاً. وهذه رسالة ضمنية للفلسطينيين أن ينظروا لذاتهم ويستمدون القوة من أنفسهم، وليس من ارتباطهم بهذه القوة الخارجية أو تلك حتى وإن كانت عربية أو إسلامية.
وفي انتظار الاستجابة الفلسطينية للتحدي الإسرائيلي المتمثل في فكر وسلوك ليبرمان كنموذج صريح للسلوك والتحدي الإسرائيلي المتسم بالغرور والصلف، نشير لبعض الأفكار للتنبيه نحو وجودها ومخاطرها:
الأولى: مسألة تحريك الحدود ظهرت منذ فترة في إطار عملية السلام، ولكن كان المطروح تحريك محدود، ولكن أطروحة ليبرمان مثل أطروحة بنحاس سافير الزعيم العمالي المتشدد في الستينيات من القرن الماضي، حول الوطن البديل سواء في الأردن أو النقب أو حتى سيناء، ولهذا كانت مصر يقظة منذ البداية وعلى حق في موقفها ذلك، فرفضت ضم غزة لمصر، وأبقت عليها تحت الإشراف العسكري المصري، ورفضت وماتزال ترفض تدفق الفلسطينيين لسيناء وعدم فتح الحدود عشوائياً، وإنما الحفاظ عليها مهما كانت معاناة الفلسطينيين لكي يكون ذلك مظهراً لإصرارهم على وطنهم وحافزاً لهم للعمل من أجل تحريرها، لأنها تعرف خطط إسرائيل ونواياها الخبيثة بدفعهم خارج أراضيهم كخطوة للاستيلاء عليها، ولخلق مشكلة جديدة بين الفلسطينيين والمصريين، وللأسف حماس ومن يقفون وراءها تلعب بحسن نية أو سوء نية لمصلحة الخطط الإسرائيلية بعيدة المدى وينساق وراءها بعض المثقفين وبعض الجماهير غير الواعية.
الثانية: مقولة يهودية دولة إسرائيل ليست جديدة فهي في منطوق قرار التقسيم، وفي وعد بلفور مع بعض التحفظات بعدم المساس بحقوق السكان الآخرين، وخطورة المقولة في سعيها للقضاء على حق العودة وضربه في مقتل بموافقة دولية أو عربية أو فلسطينية إذا انساق الجميع وراء ذلك حتى ولو كان نظرياً، وبل وأيضاً إمكانية طرد فلسطيني 1948 وربما طرد فلسطينيين من مدن أخرى في الضفة الغربية بدعوى أنها يهودية الأصل بما في ذلك القدس. ولا يخفى أن ليبرمان وغيره من الإسرائيليين يستخدمون الأسماء اليهودية التاريخية للضفة الغربية.
الثالثة: ننبه إلى خطورة الرفض الفلسطيني الشكلي أو الغوغائي، لأنه يتيح الفرصة لإسرائيل لإنهاء التفاوض، حتى وإن كان الأمل محدوداً للغاية، ما يعطيها الوقت الذي تحتاجه لمزيد من التوسع والاستيطان، ومزيد من بث الفرقة والصراع بين الفلسطينيين، وهو صراع تغذيه إيديولوجيات ومصالح دول عربية وإقليمية ودولية لا يهمها في الحقيقة قضية فلسطين والتي تكاد تضيع بسبب استخدامها كذريعة لأغراض ومآرب أخرى.
الرابعة: إن التحدي الإسرائيلي باستمرار الاستيطان وبحكومة التطرف الإسرائيلي والتوجه الإسرائيلي المستمر نحو مزيد من التطرف ليس بالنسبة لحكومة نتنياهو بل أيضاً بالنسبة لقطاعات عريضة من الشعب الإسرائيلي في حين الاتجاه العربي والفلسطيني وهو الأهم نحو الضعف والتخاذل وقبول اضعف الحلول في كل مرحلة خاصة بعد فوات الأوان، نقول إنه ينبغي أن يواجه التحدي الإسرائيلي باستجابة فلسطينية حقيقية مدروسة وبعيدة المدي. تعتمد أولاً: المصلحة الفلسطينية وليست أية مصلحة لدول خارج فلسطين عربية أو غير عربية. ثانياً: تسخير الدول الأخرى الراغبة في مساعدة الفلسطينيين لكي تعمل حقيقة لمصلحة فلسطين دون التدخل في شئونهم الداخلية، وليس العكس كما يحدث حالياً. ثالثاً: الاتفاق الفلسطيني على تحرير فلسطين بشتى الوسائل، وعدم الصراع حول هوية الدولة ونظامها السياسي، ومن له السلطة قبل أن توجد الدولة لأن محصلة الصراع قبل الأوان ضياع الأرض تدريجياً في غضون سنوات قلائل. رابعاً ضرورة عودة الفلسطينيين لمقولتهم التقليدية بأن الدم الفلسطيني خط أحمر بعد أن أزالوا كافة الخطوط وانتهكوا المحظورات وأصبح الفلسطيني يقتل الفلسطيني ويحبسه ويعذبه ولم يترك بذلك ذريعة لنقد إسرائيل.
خامساً: ضرورة العمل لتوفير المقومات الأربعة لبناء الدول وتقدمها، التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال وهذا ليس بدعاً في الثورات الواعية فالثورة الصينية بنت المؤسسات قبل أن تستكمل التحرير والثورة الهندية شاركت في الحكم الذاتي تحت الإنجليز قبل أن تحقق الاستقلال الكامل. سادساً: المنظور الواقعي للوضع اليوم يقدم صورة قاتمة، ولكن لو اتفق الفلسطينيون، وابتعدوا عن القوى الأخرى، وخدمتهم لمصالحها، واستخدامهم أداة لها في الصراع الإقليمي، فيمكن أن يؤدي المنظور التاريخي دوره في تغيير المعادلة. وربما أيضاً المنظور الديموغرافي المتراجع حالياً تحت تأثير التقدم التكنولوجي يمكن أن يسترد تأثيره.
وختاماً فأنني أدعو كل فلسطيني لقراءة خطاب ليبرمان، والتفكير في محاور علمية وعملية وواقعية وإستراتيجية بعيدة المدي للاستجابة لما يمثله من تحدٍّ حقيقي. و كما إنني أتمني أن يكون كل عربي وكل فلسطيني على وعي بالفكر الإسرائيلي الحقيقي ومدى تطرفه بعيداً عن العبارات الدبلوماسية المنمقة وبعيداً عن التجاوب الشكلي مع ضغوط القوى الدولية من أجل تحقيق السلام، الذي لابد أن نعترف من منظور واقعي حقيقي، أنه مازال بعيد المنال، بل هو أكثر مراوغة وهروباً من الواقع من المراوغة التي تقوم بها القيادات الإسرائيلية، وأكثر هروباً من هروب قيادات فلسطينية وعزوفها عن مسئولياتها الحقيقية ومنها ضرورة رسم خطة إستراتيجية سليمة لإقامة دولتهم وتحرير أراضيهم بعيداً عن الشعارات التي لن تقدم جديداً بل ستزيد من معاناة الفلسطينيين، وربما تقضي على الأمل المحدود لإقامة دولتهم. وبعيداً عن ادعاء البطولة غير الحقيقية والمبالغ فيها بحجة رفع الروح المعنوية في حين أنها تؤدي كثيراً أكبر خدمة لإسرائيل عندما يقوم بعض المناضلين بعملية ما تعلن منظمته أن فلاناً قام بكذا وأنه ينتمي لقرية كذا فتقوم إسرائيل بهدم بينه وقريته وتشريد أهله في حين أن إسرائيل ترتكب مختلف الجرائم التي يحرمها القانون الدولي ولا تتكلم بل وتلوذ بالصمت حتى عندما يتحدث الآخرون عنها ويقولون إنها ارتكبت كذا وكذا. إن قليلاً من الصمت والعقلانية يخدم القضية لمن في قلبه إدراك وفي عقله وعي.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2964 - الأحد 17 أكتوبر 2010م الموافق 09 ذي القعدة 1431هـ