كنتُ بمعيّة صحبٍ أعزّاء. كان الحديث يدور حول جلالة قدر أحد العلماء الكبار الذي وصل به العمر إلى مئة وستة أعوام، وكيف أن عمره الطويل لم يَحُل دون أن يُمارس حياته العلمية والعملية بشكل طبيعي.
أحد الأصدقاء قال ومن دون لجاجة أو تلعثم: إن ذاكرة ذلك العالم الكبير بقيت نَشِطة إلاّ أنه ابتُلِيَ بأن كان «ثَقْلُهُ سَمِيْع»! بطبيعة الحال فإن الجميع لم يُدرك ما قاله ذلك الصديق العزيز، الذي رأى استنكارنا فصوّب حديثه بالقول: بأنه كان يقصد من ذلك أن سَمْعُه (أي العالِم) كان ثقيلا.
أسْتلُّ من تلك الحادثة التي تكتنف قدرا من الفكاهة ما يُقاربها من تحريف في الموضوع والمصداق وقلب الألفاظ استمرأه السياسيون في جِدِّهِم بأمّهات القضايا. وهم في ذلك يتقلّدون من الصُلبان المعْقُوفَة ما يكفي لكي يتشبّهون بمن سبقوهم.
في حادثة هي الأقرب إلى الذاكرة هَاجَ الغرب السياسي ومَاجَ لما قاله الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية بجنيف (ديربان 2). بطبيعة الحال فإن الاستنكار الغربي قاد ظروف الحديث لأن تُربطَ بإرهاصات أصل الإشكال. وهو ما دَرَجَ عليه نجاد منذ تصريحه الأول في مؤتمر «عالَمٌ بلا صهيونية» في العام 2005.
حين قال: «إن الحلفاء لجأوا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى القوة العسكرية لانتزاع أراضٍ من أمة برمتها، تحت ذريعة معاناة اليهود، وأرسلوا مهاجرين من أوروبا والولايات المتحدة ومن عالم المحرقة لإقامة حكومة عنصرية في فلسطين المحتلة»، فهل هذا كلامٌ مغلوط يا تُرى؟!
كلّ من أرّخ للقضية الفلسطينية لا أظنّه استطاع تجاوز تلك الحقيقة التاريخية والميدانية. فهي وباختصار شديد مادة الصراع وتفصيله. ومن دونها لا تُصبح هناك قضية. فالجرائم الصهيونية هي لازمةٌ للقضية الفلسطينية بشكل مُحكم.
هنا يأسف المرء إن كرّر ما يقتضي الواحد منا أن يُكرّره بشأن عنصرية الكيان الصهيوني وجرائمه إلى الحدّ الذي أضحى ذلك على شكل ترانيم لا تُطربُ أذنا ولا تُحرّك قلبا ولا تُجْحِظُ عينا.
إذا كان الأوروبيون لم يقبلوا بنظام النازيين وائتلفوا عليه حتى أجهزوا عليه وعلى مُسبباته، وإذا هم لم يقبلوا لا بنظام موسوليني في إيطاليا ولا بنظام فرانكو في أسبانيا فكيف يُلزمون العرب بهذا النظام العنصري الأبارتايدي.
هم اليوم يُكيّفون اللغة ويجعلونها تدور مدار السياسة والمصالح. يقلبون العبارات ويُحوّرونها، ويُذيّلونها، ويُقيدونها، ويفتحونها ويُؤولونها ويُخرّجونها حسب المسار. إنه استعمار للغة لا يقلّ وقاحة عن استعمار الأرض.
إذا كانت الغَلَبَةُ والسيادة اليوم لهذا العالم الغربي، فإن الأمر لا يعني القبول بواقع يُخالف مصالح الأمم والشعوب ومستقبلها، بل وبما يُخالف أصول العيش المشترك والنظام الاجتماعي والكوني المعمول به مذ أن أقلَع بنو البشر عن بدائيتهم.
اليوم على العرب أن يقولوا ويقفوا كما وقف العجوز الإنجليزي ونستون تشرشل إبّان الحرب العالمية الثانية. فموازين القوى حينها كانت لا تعطيه سوى حفنة من أصفار الشمال في معادلة الصراع. فدول المحور كانت تستأسد عليه وعلى أوروبا والعالم بجيوش حديدية وحركة تصنيع هائلة وسرعة التفاف على الخصوم.
لكنه لم يرفع شارة بيضاء أمام جيوش الرايخ الثالث. رغم أن الناظر لمدينة لندن حينها كان لا يرى سوى لهيبا ودمارا. وصمدت عاصمة الضباب أمام ضربات المقاتلات الألمانية طيلة ست وثمانين ليلة ليلاء.
العالم اليوم أمام مسئولية تخليص المفهوم والتفكير من استعمار غربي صهيوني يميني جديد، لوّث القانون والسياسة والعلوم، وجيّرها لخدمة الهيمنة. حتى أصبح القتل في بقعة جغرافية رياضة وفي أخرى وحشية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2421 - الأربعاء 22 أبريل 2009م الموافق 26 ربيع الثاني 1430هـ